الكعبة المعظمة بناء وكسوة على مر التاريخ



البيت العتيق:​

المؤكد أن الكعبة المشرفة هي أول بيت وضع للناس، كما جاء في محكم التنزيل: ((إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ)) [آل عمران:96]، وإن اختلف المؤرخون في أول من بناها، (على أن معظم الفترة الأولى من قصة الكعبة قد غاب عن واعية التاريخ أكثر تفاصيلها، ولكن المعروف والذي تجمع عليه كل المراجع أنها بنيت قبل آدم عليه السلام، وأن الملائكة هم الذين قاموا بتشييد أول بناء لها، وقد شيدوه تحت مركز العرش بعد البيت المعمور، ويقول المحققون: أنه إذا ثبتت قصة البناء قبل الخليل عليه السلام فهو بناء تأسيس فقط)( ).​

​(فالكعبة المشرفة بيت الله جل جلاله، وقد نسبه الله سبحانه وتعالى إلى نفسه، إذ قال: ((وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ)) [البقرة:125].​

​(ونسب الله عز وجل البيت إلى نفسه إعلاماً لخلقه بما له من قداسة وحرمة وجلال، وتكريماً له وتشريفاً، حتى يكون في الأرض للناس جميعاً يلوذون به، ويثوبون إليه، ويجدون فيه أمن النفس من الخوف والجوع فيعبدون الله في رحابه وعبادة صحيحة).( )​

والكعبة المعظمة هي هذا البناء الشامخ الجليل الذي يقع في قلب الحرم المكي الشريف، وهي قبلة المسلمين، ومحط أنظارهم، ويلتفت الناس حولها في الصلوات الخمس، ويطوفون بها في الليل والنهار لا ينقطع طوافهم إلا في الصلوات الخمس، عندها يقف الجميع أمامها وفي اتجاهها، في خشوع وتبتل يؤدون الصلاة المكتوبة عليهم، ولا تهمد الحركة حولها وأمامها أبداً.​

​(وأما تسمية البيت المعظم (الكعبة) فقد ورد في ذلك عدة روايات منها ما ذكره الحافظ البغوي في تفسيره عن مجاهد أنه قال: [[سميت كعبة لتربيعها]]، والعرب تسمي كل بيت مربع كعبة، وقال مقاتل: [[سميت كعبة لانفرادها من البناء]]، وقيل سميت كعبة لارتفاعها من الأرض، وأصلها من الخروج والارتفاع، وقال ابن الأثير في النهاية، (كل شيء علا وارتفع فهو كعب، ومنه سميت الكعبة للبيت الحرام، وقيل سميت به لتكعيبها، أي تربيعها).( )​



قداسة الكعبة:​

ومنذ أن بني بيت الله الحرام( ) على أيدي الرسولين الكريمين إبراهيم وإسماعيل كان مقصوداً من حجاجه، وإنه كان قد دخل إلى عقيدة التوحيد، من الشرك والوثنية ما دخل فيها، ومع هذا بقي البيت الحرام مقدساً لدى المؤمنين والمشركين والوثنيين يحجون إليه، وكانت قداسة الكعبة لذاتها، ولهذا كان الإجماع منعقداً على تقديسها، من قبل العرب الذين اختلفوا في معتقداتهم وآلهتهم دون أن يحملهم هذا الاختلاف على قداسة الكعبة).​

(لقد اختلفوا في الشعائر والفرائض لاختلاف آلهتهم، ولم يفرض أتباع أحد من هذه الآلهة على أتباع الإله الآخر فرائضه وشعائره، بل تمسك كل فريق بفرائضه وشعائره وصنمه، ولم يقبل من غيره أي فريضة يفرضها، أو شعيرة يحمله عليها).​

​(أما شعائر الكعبة وفرائضها فهم راضون بها ويؤدونها حسب ما يمليه سدنتها وحمسها).​

(وتفرد الكعبة بهذه القداسة يثبت أنها بيت الله الحرام بحق، وما عداه ليس ببيت الله، وإنما هو بيت صنم، ولهذا لم يكن لبيت من القداسة لدى العرب غير الكعبة وحدها).​

​(وظل البيت محجة للناس إلى أن أكرم الله الوجود الإنساني بالرسول الأعظم محمد خاتم الرسل صلى الله عليه وسلم، فطهر بيت الله من الأوثان والأصنام، وعبادتهما، ففي السنة العاشرة للهجرة تمت طهارة البيت والحج إليه من كل ضروب الوثنية وعادتها، فلم يعد منذ تلك السنة يحج إلى البيت كافر، أو يطوف عريان، وعادت إلى بيت الله قداسته التامة الشاملة، وصار بعد ذلك أنى كانوا من مشارق الأرض ومغاربها( ).​



ضفة الكعبة:​

(وهي بناء مكعب مجوف من الداخل، وقد جعل إبراهيم الخليل عليه السلام طولها تسعة أذرع، وجعل لها بابين ملاصقين للأرض أحدهما من الشرق والثاني من الغرب، ولم يجعل لها سقفاً، ولا وضع على البابين أبواباً تفتح وتغلق، وحفر في داخلها بئراً يكون خزانة لهداياها( )، أما داخل الكعبة فقد جاء وصفها في (تاريخ الكعبة المعظمة)( )، وقد حدث لها ترميم في سقفها الأسفل، وتمت إزالة سقفها الأعلى، وعمل سقف جديد، مع تغيير الأعواد والأخشاب التالفة فيه، وأنشئت على الجدار بين السقفين ميدة تحيط بالجدران جميعاً بحيث لا يظهر من الميدة شيء زائد، كما رممت الكسوة الرخامية التي على الجدران من الداخل( )، (وهي من الداخل تقوم على ثلاثة أعمدة ضخمة، وفي الناحية الشمالية يقع باب التوبة الذي يتم منه الصعود إلى سطح الكعبة، ويغطي سقف الكعبة من الداخل وجانباً من جدرانها ستاير من الحرير الأحمر عيها مربعات مكتوب فيها: (الله جل جلاله) وفي الناحية المقابلة لباب الدخول محراب وبقية الجدران مغطاة بالرخام المجزع، وبالكعبة صندوق ضخم تحفظ فيه بعض مقتنياتها، وقد تدلت من السقف قناديل ضخمة من الذهب وقد رصعت بالجواهر واللآلئ)( )



خصائص الكعبة:​

​وقد مرت محاولات لهدم الكعبة، أعظمها محاولة أبرهة الأشرم ملك اليمن، وكان تابعاً لملك الحبشة، فخرج بجيش جرار من اليمن ومن الحبشة، ومع فيل عظيم، فلما بلغ وادي محسر الواقع بين مزدلفة ومنى، ولم يبق بينه وبين مكة إلا مسافة عشرة كيلو

مترات عبأ جيشه وقدم الفيل، فكانوا إذا وجهوه إلى جهة الحرم وقف مكانه، ولزم موضعه، ولم يتحرك منه، فإذا وجهوه إلى جهة اليمن هرول ومشى مسرعاً، فأرسل الله عليهم طيراً أبابيل سوداء، وفصل الله سبحانه وتعالى في سورة الفيل: ((أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ)) [الفيل:1] * ((أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ)) [الفيل:2] * ((وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ)) [الفيل:3] * ((تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ)) [الفيل:4] * ((فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ)) [الفيل:5].( )​



خدمة الكعبة:​

(خدمة الكعبة تسمي بالحجابة، وخدام الكعبة يسمون بسدنة الكعبة، وهم جماعة مخصصون يتوارثونها بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى الآن من قوله صلى الله عليه وسلم: {خذوها خالدة تالدة لا ينزعها منكم إلا ظالم}، وهم المعروفون ببيت بني شيبة)( )، وقد سلم الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم مفتاح الكعبة لعثمان بن طلحة، وشيبة بن عثمان بن طلحة بعد فتح مكة المكرمة، وقال قولته، ولا زالت الحجابة في نسل شيبة بن عثمان حتى اليوم( )، (وكان أول من قام بخدمة الكعبة الخليل إبراهيم عليه السلام، ومنه آلت خدمة الكعبة إلى ولده إسماعيل عليه السلام، وبعد إسماعيل صارت لأولاده إلى أن اغتصبها منهم أخوالهم جرهم، ثم استولت عليها خزاعة عنوة، ومكثت فيهم عدة قرون، إلى أن آل أمر مكة والكعبة إلى قصي القرشي وهو الجد الرابع للنبي صلى الله عليه وسلم، ثم أسلم قصي أمور السدانة إلى ولده الأكبر عبد الدار، فظلت كذلك جاهلية وإسلاماً، إلى أن استقر بها المقام عند شيبة بن عثمان بن طلحة وذريته من بعده( ).​



مقاس الكعبة:​

​وتفاوت المؤرخون في ذكر مقاس الكعبة، وهو اختلاف ناشئ من اختلاف الأذرع، وما بين ذراع اليد، وذراع الحديد، وهما يتفاوتان، فقد جاء في تاريخ الكعبة المعظمة أن ذراع اليد يتراوح ما بين (46) إلى (50)سم، وذراع الحديد (56.5) سم( )، بينما ذكر أخيراً أن ذراع اليد (48)سم( )، وقد ذكر إبراهيم رفعت باشا في كتابه (مرآة الحرمين) أنه ذرع الكعبة المشرفة بالمتر، فقال: ارتفاعها (15) متراً، وطول ضلعهما الشمالي (9.92) أمتار، والغربي (12.15) متراً، والجنوبي (10.25) أمتار، والشرقي (11.88) متراً، ولم يوافق مؤرخ تاريخ الكعبة المعظمة على الارتفاع، إذ أكد أن: (الظاهر أن إبراهيم رفعت لم يذرع ارتفاع الكعبة فعلاً، وإنما قدر ارتفاعها تقديراً)( ).



وقد قام مركز أبحاث الحج في جامعة أم القرى بمكة المكرمة بدراسة الحركة في المطاف، ووضع من خلالها مخططاً تفصيلياً للكعبة المشرفة، وحجر إسماعيل، بيانها كالتالي بالنسبة للكعبة:​

1- من الركن الأسود إلى الركن الشامي 11.68 متراً وفيه باب الكعبة.​



2- من الركن اليماني إلى الركن الغربي 12.04 متراً.​



3- من الركن الأسود إلى الركن اليماني 10.18 أمتار.

4- من الركن الشامي إلى الركن الغربي 9.90 أمتار.​



أما الارتفاع، فقد كان حسب بناء إبراهيم عليه السلام (4.32) أمتار، وبناء قريش (8.64) أمتار، وفي بناء عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما (12.95) متراً، وحافظ الخليفة عبد الملك بن مروان على هذا الارتفاع( )، في بناء الحجاج، وبالتأكيد فإن الارتفاع الذي ذكره إبراهيم رفعت باشا غير دقيق، وقد ذكر نفس الارتفاع (15) متراً في الكعبة المشرفة، ويبدو أنه نقل عن مرآة الحرمين.



بناء الكعبة:​​​

وقد بنيت الكعبة المعظمة اثنتي عشرة مرة( ):



1- بناء الملائكة.​



2- بناء آدم عليه السلام.​

3- بناء شيث.​



4- بناء إبراهيم عليه السلام.​



5- بناء العمالقة.​

6- بناء جرهم. ​



7- بناء قصي.​



8- بناء عبد المطلب.​

9- بناء قريش.​



​10- بناء عبد الله بن الزبير.​



11- بناء الحجاج.​

12- بناء السلطان مراد خان العثماني( ).



(وقد اختلف المؤرخون في بناة الكعبة ، إلا أن القول الثابت الذي لا خلاف فيه لقوة أدلته هو القول بأن بناة البيت ثلاثة، إبراهيم الخليل، قريش، فابن الزبير، والحجاج، ذلك أن بناء الخليل ثابت بالقرآن، وبناء قريش ثابت بالحديث الصحيح الذي رواه البخاري، وبناء ابن الزبير والحجاج أجمع عليه المفسرون والمؤرخون، ويمكن أن نقول: أن هؤلاء الأحد عشر( ) هم جملة من تعرض للكعبة على الإطلاق بيد إصلاح أو تعمير أو تجديد أو ترميم، وكان لهم بهذا شرف عظيم تجاه ما قدموه لبيت الله من قليل أو كثير( ).​



إضافة إلى ذلك فإن هؤلاء هم الذين بنوها بناء حقيقياً من أساسها، فالحجاج مثلاً هدم ما زاده ابن الزبير وأعاده إلى بناء قريش، ولم يبن على الأساس.

​​​

​مراحل البناء التاريخية :​

وقد بني بيت الله على أصح المصادر إحدى عشرة مرة، ولكن الاختلاف فيما من بناها بناءً كاملاً من الأساس، ولم يثبت عبد المطلب بن هاشم جد النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الثاني عشر الذي جاء ذكره في تاريخ الكعبة المعظمة، كما تم ترميمه عدة مرات، ومنها ما تم في العهد السعودي.

بناء إبراهيم وإسماعيل:​

 

​​​​

​بناء قصي:​

ويقول ابن إسحاق: كان قصي أول بني كلاب أصاب ملكاً أطاع له به قومه، وكانت له الحجابة والسقاية والرفادة والندوة واللواء فحاز شرف مكة كله، وقصي هو الجد الرابع للنبي ص( )، وبناء قصي هو البناء السابع، وقد جد في بناء الكعبة، وجمع النفقة ثم هدمها، وبناها بنياناً لم يبن أحد ممن بناه مثله وقد سقفها بخشب الدوم الجيد وبجريد النخل وبناها على خمسة وعشرين ذراعاً( ).



بناء قريش:​​​​

وهو البناء التاسع للكعبة المشرفة حسب تاريخ الكعبة المعظمة، وذكر أن البناء الثامن كان لجد النبي صلى الله عليه وسلم عبد المطلب، وهو مسنود على رواية الفاسي في (شفاء الغرام) لكنه غير ثابت، فلم يرد في المراجع والمصادر التاريخية لا صراحة ولا تلميحاً أن عبد المطلب بنى الكعبة المعظمة( ).​



​وأما بناء قريش فهو ثابت، وقد جاء في البخاري ومسلم عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: {سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجدر، أمن البيت هو، قال: نعم، قلت فما لهم لم يدخلوه في البيت، قال: ألم ترى قومك قصرت بهم النفقة، قلت: فما شأن بابه مرتفعاً، قال: فعل ذلك قومك ليدخلوا من شاءوا ويمنعوا من شاءوا، ولولا أن قومك حديث عهدهم بجاهلية فأخاف أن تنكر قلوبهم أن أدخل الجدر في البيت وأن ألصق بابه الأرض}( ).​

وفي سيرة ابن هشام عن ابن إسحاق أنه قال: (فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خمساً وثلاثين سنة اجتمعت قريش لبنيان الكعبة، وكانوا يهمون بذلك ليسقفوها، ويهابون هدمها، وإنما كانت رضماً فوق القامة، فأرادوا رفعها وتسقيفها، وذلك أن نفراً سرقوا كنزاً للكعبة، وإنما كان يكون في بئر في جوف الكعبة)( ).

وبعد أن تحدث ابن هشام عن السفينة التي جنحت إلى جدة وتحطمت، فأخذت قريش خشبها لتسقيف الكعبة، وبعد أن تحدث عن الحية التي تخرج من بئر الكعبة وقد خطفها طائر، قال ابن هشام: (فلما أجمعوا أمرهم في هدمها وبنائها، قام أبو وهب بن عمرو بن عائذ المخزومي فتناول من الكعبة حجراً فوثب من يده حتى رجع إلى موضعه، فقال: يا معشر قريش، لا تدخلوا في بنائها من كسبكم إلا طيباً لا يدخل فيه مهر بغي، ولا بيع ربا، ولا مظلمة أحد من الناس).​

(ثم إن قريشاً تجزأت الكعبة، فكان شق الباب لبني عبد مناف وزهرة، وكان بين الركن الأسود والركن اليماني لبني مخزوم وقبائل من قريش انضموا إليهم، وكان ظهر الكعبة لبني جمح وسهم ابني عمرو بن هصيص بن كعب بن لؤي، وكان شق الحجر لبني عبد الدار بني قصي ولبني أسد بن عبد العزى بن قصي ولبني عدي بن كعب بن لؤي).​



(قال ابن إسحاق: ثم إن القبائل من قريش جمعت حجارة لبنائها كل قبيلة تجمع على حدة، ثم بنوها حتى بلغ البنيان موضع الركن، فاختصموا فيه، كل قبيلة تريد أن ترفعه إلى موضعه دون الأخرى، حتى تحاوروا وتخالفوا وأعدوا للقتال).​

(فمكثت قريش على ذلك أربع ليال أو خمساً، ثم إنهم اجتمعوا حولها وتشاوروا وتناصفوا، فزعم بعض أهل الرواية أن أبا أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم، وكان عامئذ أسن قريش كلها، فقال: يا معشر قريش اجعلوا بينكم فيما تختلفون فيه أول من يدخل من باب هذا المسجد يقضي بينكم فيه، ففعلوا فكان أول داخل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رأوه قالوا: هذا الأمين، رضينا، هذا محمد، فلما انتهى إليهم وأخبروه بالخبر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هلم إلي ثوباً، فأتى به، فأخذ الركن فوضعه فيه بيده، ثم قال: لتأخذ كل قبيلة بناحية من الثوب، ثم ارفعوه جميعاً، ففعلوا، حتى إذا بلغوا به موضعه وضعه هو بيده ثم بنى عليه)( ). (فبنوا حتى رفعوا أربعة أذرع وشبراً، ثم كبسوها، ووضعوا بابها مرتفعاً على هذا الذرع، ورفعوها مدماكاً من خشب ومدماكاً من حجارة، وكان طولها تسعة أذرع فاستقصروا طولها وأرادوا الزيادة فيها فبنوها، وزادوا في طولها تسعة أذرع، وكرهوا أن يكون بغير سقف فلما بلغوا السقف قال لهم (باقوم) الرومي: إن تحبوا أن تجعلوا سقفها مكيساً أو سطحاً فعلت، قالوا: بل ابن بيت ربنا سطحاً، فبنوه سطحاً، وجعلوا فيه ست دعائم في صفين، كل صف ثلاث دعائم، من الشق الشامي الذي يلي الحجر، إلى الشق اليماني، وجعلوا ارتفاعها من خارجها من الأرض إلى أعلاها ثمان عشرة ذراعاً، وكانت قبل ذلك تسع أذرع، وبنوها من أعلاها إلى أسفلها فكانت خمسة عشر مدماكاً( )، من الخشب، وستة عشر مدماكاً من الحجارة، وجعلوا ميزابها يسكب في الحجر، وجعلوا أدرجة من خشب في بطنها في الركن الشامي، وجعلوا لها باباً واحداً وكان يغلق ويفتح)( ).​

​​​​

بناء عبد الله بن الزبير:​​​​

​يعتبر صاحب تاريخ الكعبة المعظمة أن رواية الحافظ نجم الدين بن فهد في كتابه (إتحاف الورى) أوضح وأجمع ما ورد في عموم الروايات التي جاءت في عمارة ابن الزبير رضي الله عنهما، وفي نفس الوقت لا تخالف الروايات الأخرى، وسنقدم جزءاً منها بما يكفي لإيضاح بناء عبد الله بن الزبير، دون الدخول في تفاصيل تتعلق بالخلافات، وأسباب تعرض الكعبة للمنجنيق مما أدى إلى تعرضها للنيران، فحصرنا هذه الرواية فيما يخص البناء فقط، جاء في رواية الحافظ: (ودعا ابن الزبير وجوه الناس وأشرافهم فشاورهم في هدم الكعبة، فأشار عليه ناس كثير بهدمها، ومنهم جابر بن عبد الله، وكان جاء معتمراً، وأبى أكثر الناس هدمها، وكان أشدهم عبد الله بن العباس وقال: دعها على ما أقرها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإني أخشى أن يأتي بعدك من يهدمها، ثم يأتي بعد ذلك آخر فلا تزال أبداً تهدم وتبنى، فتذهب حرمة هذا البيت من قلوبهم، ويتهاون الناس بحرمتها، ولا أحب ذلك، ولكن أرقعها).



(فقال ابن الزبير: والله ما يرضى أحدكم أن يرقع بيت أبيه وأمه فكيف أرقع بيت الله سبحانه، وأنا أنظر إليه ينقض من أعلاه إلى أسفله، حتى أن الحمام ليقع فتتناثر حجارته، فأقام أياماً يشاور وينظر ثم أجمع على هدمه، وكان يحب أن يكون هو الذي يرده على ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم على قواعد إبراهيم، وعلى ما وصفه رسول الله صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها، فلما اجتمع له ما يحتاج إليه من آلات العمارة، وأراد هدم الكعبة عمد إلى ما كان في الكعبة من حلية وثياب وطيب فوضعه في خزانة الكعبة، في دار شيبة بن عثمان، حتى أعاد بناءها، ولما أراد ابن الزبير هدم الكعبة أخرج أهل مكة منها، بعضهم إلى الطائف، وبعضهم إلى منى، فرقاً( ) أن ينزل عليهم عذاب لهدمها، ولم يرجعوا إلى مكة حتى أخذ في بنائها، فلما هدم ابن الزبير الكعبة وسواها بالأرض كشف أساس إبراهيم( )، فوجده داخلاً في الحجر نحواً من ستة أذرع وشبراً، كأنها أعناق الإبل آخذ بعضها ببعض، فإذا تحرك الحجر من القواعد تحركت الأركان كلها، فدعى ابن الزبير خمسين رجلاً من وجوه الناس وأشرافهم وأشهدهم على ذلك الأساس، ثم وضع البناء على ذلك الأساس، ووضع حداث باب الكعبة على مدماك على الشاذروان الملاصق بالأرض، وجعل الباب الآخر بإزائه في ظهر الكعبة مقابله، وجعل عتبته على الحجر الأخضر الطويل الذي في الشاذروان الذي في ظهر الكعبة قريباً من الركن اليماني.​

(فلما بلغ ابن الزبير بالبناء ثمانية عشر ذراعاً في السماء، وكان هذا طولها يوم هدمها فقصرت لأجل الزيادة التي زادها من الحجر فيها، فقال ابن الزبير: قد كانت قبل قريش تسعة أذرع حتى زادت قريش فيها تسعة أذرع طولاً في السماء، فأنا أزيد فيها تسعة أذرع أخرى، فبناها سبعة وعشرين ذراعاً في السماء، وهي سبعة وعشرون مدماكاً، وعرض جدارها ذراعان، وجعل فيها ثلاث دعائم في صف واحد، وأرسل ابن الزبير إلى صنعاء فأتى منها برخام يقال له الباق، فجعله في الروزن التي في سقفها للضوء، وبناها بالرصاص المخلوط بالورس، وكان باب الكعبة قبل بناء ابن الزبير مصراعاً واحداً، فجعل لها مصراعين طولهما أحد عشر ذراعاً من الأرض إلى منتهى أعلاها، وجعل الباب الآخر الذي في ظهرها بإزائه على الشاذروان الذي على الأساس مثله، وجعل لها درجة في بطنها في الركن الشامي، من خشب معرجة تصعد فيها إلى ظهرها، وجعل في سطحها ميزاباً يسكب في الحجر( )
وبناء عبد الله بن الزبير رضي الله عنه الله عنهما هو العاشر، وقد تمت ما بين سنة (64) هـ (683)م، وسنة (65)هـ (684)م، وهو أول بناء للكعبة بعد بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم.​

​​​​

بناء الحجاج:​​​​

(ثم روى مسلم حديثاً آخر عن ابن جريج قال: سمعت عبد الله بن عبيد بن عمير، والوليد ابن عطاء يحدثان عن الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة، قال: عبد الله بن عبيد: وفد الحارث بن عبد الله على عبد الله بن مروان في خلافته، فقال عبد الملك: ما أظن أبا خبيب يعني ابن الزبير سمع عن عائشة ما كان يزعم أنه سمعه منها، قال الحارث: بلى أنا سمعته منها، قال: سمعتها تقول ماذا، قال: قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إن قومك استقصروا من بنيان البيت، ولولا حداثة عهدهم بالشرك أعدت ما تركوا منه، فإن بدا لقومك بعدي أن يبنوه فهلمي لأريك ما ترك منه}.​



قال عبد الملك( ) للحارث: أنت سمعتها تقول هذا، قال: نعم، فنكث ساعة بعصاه ثم قال: وددت أني تركته وما تحمل)( )

وبناء الحجاج في الكعبة في الجدار الذي من جهة حجر إسماعيل، والباب الغربي المسدود في ظهر الكعبة عند الركن اليماني، وما تحت عتبة الباب الشرقي، وهو أربعة أذرع وشبراً على ما ذكره الأزرقي، وترك بقية الكعبة على بناء ابن الزبير، وكان هذا البناء سنة (74)هـ - (693)م.​



بناء السلطان مراد:​​​​

تسبب سيل عظيم دخل المسجد الحرام عام 1039هـ - 1629م، في سقوط معظم البيت المعظم، فقد دخل السيل العظيم المسجد الحرام وملأ غالبه، ودخل الكعبة المعظمة من باب ووصل إلى نصف جدارها وبلغ في الحرم إلى طوق القناديل، وقد أدى ذلك إلى سقوط الجدار الشامي، وبعض الجدارين الشرقي والغربي، وسقطت درجة السطح، وكان أمراً جللاً أوقع الضجيج العام، وأزعج الناس، وقد تمت إعادة البناء على ما كانت عليه عندما أعاد بناءها الحجاج، وأرض الكعبة وجدرانها من رخام ملون، وفيها أربعة دعائم، والدرجة الصاعدة إلى السطح في بطن الجدار الشامي عليها باب صغير( ).
وبهذه العمارة انتهت عمارة الكعبة المعظمة من عهد بناء الملائكة إلى العصر حيث كانت عمارة السلطان مراد خان سنة 1040هـ - 1630م، هي الأخيرة، واستغرقت عمارتها نحو ستة أشهر ونصف.​



الترميم والإصلاح:​

أفرد مؤلف تاريخ الكعبة المعظمة فصلاً حول ترميم وإصلاح الكعبة المشرفة، وفي عموم محتوياتها، من داخلها وخارجها وسقفها وجدرانها، وعموم متعلقاتها منذ عمارة عبد الله بن الزبير إلى وقتنا الحاضر، وقد أضيف في الطبعة الثانية من نفس الكتاب الترميم الذي تم في العهد السعودي( )، ومن الصعب ذكر كل ما تم في هذا الشأن، لكن هناك محاولتين لإعادة بناء الكعبة على بناء ابن الزبير، الأولى من سليمان بن عبد الملك، ولم يمنع سليمان إلا أن ما فعله الحجاج كان بأمر أبيه عبد الملك بن مروان، أما المحاولة الثانية فكانت في العهد العباسي في زمن أبي جعفر المنصور، وابنه محمد المهدي، أو حفيده هارون الرشيد، لما أراد أن يغير ما صنعه الحجاج في الكعبة، وأن يردها إلى ما صنعه ابن الزبير، فناشده الله مالك بن أنس إمام دار الهجرة أن لا يفعل( ).​

​​​​​

​عناصر البيت العتيق:​

لكل بيت عناصر ومكونات، وبيت الله أهم وأقدس البيوت قاطبة في الدنيا كلها، ومفرداته لها قيمتها الدينية والتاريخية، وهي أجزاء من بيت الله، وفي حرم الله الآمن، وسنتناول هذه العناصر باختصار غير مخل.​

​​​

الحجر الأسود:​

لما بنى إبراهيم وإسماعيل عليها السلام القواعد من البيت، ليبلغا الركن، قال إبراهيم لابنه إسماعيل: يا بني اطلب لي حجراً حسناً أضعه هنا، قال: يا أبت إني كسلان لغب( )، قال علي ذلك فانطلق يطلب له حجراً، وجاءه جبريل بالحجر الأسود من الهند، وكان أبيض ياقوتة بيضاء مثل الثغامة( )، وكان آدم قد هبط به من الجنة فاسود من خطايا الناس، فجاءه إسماعيل بحجر فوجده عند الركن، قال: يا أبت من جاءك بهذا، قال: جاء به من هو أنشط منك، فبنيا عليه، وهما يدعوان الكلمات التي ابتلى إبراهيم ربه فقال: ((رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)) [البقرة:127]،( ).​

وقد وردت أحاديث صحيحة في السنن، قال عليه الصلاة والسلام: {كان أشد بياضاً من اللبن، وإنما سودته خطايا ابن آدم}( ).​

وفي حديث أبي جهم أن الحجر الأسود نزل قبل إبراهيم، ثم رفع إلى السماء حين غرقت الأرض، ثم جاء به جبريل حين بناء إبراهيم نقله الحافظ ابن حجر في شرح صحيح البخاري( )، ورغم الخلاف على المكان الذي كان به الحجر، هل هو الهند، أو في السماء، أو جبل أبي قبيس، إلا أن الكل متفقون على أن الحجر من الجنة( ).​



والحجر الأسود يقع في ركن الكعبة الشرقي، وارتفاعه من أرض المطاف متر واحد ونصف المتر، ولا يمكن وصفه الآن، لأن الذي يظهر منه في زماننا ونستلمه ونقبله إنما هو ثماني قطع صغيرة مختلفة الحجم أكبرها بقدر التمرة الواحدة، وأما باقيه فإنه داخل في بناء الكعبة المشرفة، وممن رآه ابن علان أثناء بناء الكعبة زمن السلطان مراد عام 1040هـ قال: وذرع طوله نصف ذراع بذراع العمل، وعرضه ثلث ذراع، وسمكه أربعة قراريط، والسواد هو على الظاهر من الحجر أما بقية جرمه فهو على ما هو عليه من البياض( ).​

وقد مر على الحجر الأسود حوادث كثيرة، أولها ما ذكره ابن إسحاق، أنه عندما أخرجت جرهم من مكة، خرج عمرو بن الحارث بن مضاض الجرهمي بغزالي الكعبة والحجر، فدفنهما في زمزم وانطلق، وهناك اختلاف في مكان الدفن، غير أن امرأة من خزاعة شاهدت عملية الدفن فأخبرت قومها فأعادوه إلى مكانه، ولم يعتر الحجر الأسود نقل أو تغييب من عهد قصي إلى بناء عبد الله بن الزبير، وهو أول من ربط الركن الأسود بالفضة عندما تعرض وتصدع من الأحداث التي جرت، وأضاف إليه الخليفة العباسي هارون الرشيد تنقيبه بالماس، ثم أفرغ عليه الفضة، وقد وقع حادث عليه في آخر شهر محرم عام 1351هـ، عندما اقتلعت قطعة من الحجر الأسود، وعمل الأخصائيون مركباً كيماوياً مضافاً إليه المسك والعنبر، وبعد أن تم تركيب المركب الكيماوي، أخذ الملك عبد العزيز آل سعود رحمه الله قطعة الحجر الأسود بيده ووضعها في محلها تيمناً.



ولعل أفظع ما مر على الحجر الأسود حادثة القرامطة الذين أخذوا الحجر وغيبوه نحو اثنتين وعشرين سنة، ورد إلى موضعه سنة (339هـ)( ).​

ومن أمام الحجر الأسود يتم البدء في الطواف بالكعبة.​



الركن اليماني:

​هو ركن الكعبة المشرفة، وهو يسبق الحجر الأسود في الطواف، وبينهما يدعو الطائف اللهم إني أسألك العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، وفضائل هذا المكان عظيمة، ومزاياه جليلة، وأعظم فضيلة له هي أن المصطفى صلى الله عليه وسلم استلمه بيده الشريفة، وكان يفعل ذلك كثيراً فصارت سنة نبوية ثابتة مشروعة.
ومن فضائله - والركن الأسود - أنهما على القواعد الأولى للبيت التي رفعها إبراهيم عليه السلام( ).​

​​​

حجر إسماعيل:​

حجر إسماعيل عليه السلام فهو الحائط الواقع شمال الكعبة المعظمة، وهو على شكل نصف دائرة، وقد جعله إبراهيم عليه السلام عريشاًَ إلى جانب الكعبة، وهذه الرواية تدل على أن الحجر لم يكن من البيت المعظم، وإنما كان خارجاً منه، غير أنه لما بنت قريش الكعبة أنقصت من جانبها الشمالي ستة أذرعاً وشبراً على أشهر الروايات الصحيحة، وأدخلته في حجر إسماعيل( ). ويسمى الحجر أيضاً الحطيم، وقد ذكر ابن الأثير في النهاية أن موضعين سميا بالحطيم، قال: سمي حطيم مكة وهو ما بين الركن والباب، أي الملتزم، وقيل: هو الحجر المخرج من الكعبة، سمي به لأن البيت رفع وترك هو محطوماً.​

​وروى الأزرقي قال: الحطيم ما بين الركن الأسود والمقام وزمزم، والحجر سمي حطيماً لأن الناس يزدحمون على الدعاء فيه ويحطم بعضهم بعضاً، والدعاء فيه مستجاب( ).​

​​​​​​​​

​شاذروان الكعبة:​​​​

وهو البناء المحاط بأسفل جدار الكعبة مما يلي ارض المطاف من جهاتها الثلاث: الشرقية، والغربية، والجنوبية، وهو بناء مسنم بأحجار الرخام والمرمر، أما الجهة الشمالية فليس فيها شاذروان، وإنما هو بناء بسيط ارتفاعه أربعة قراريط عن حجر إسماعيل، وهو من الحجر الصوان، من نوع الحجر الذي بنيت به الكعبة المعظمة.​​



وحقيقة الشاذروان هو من أصل جدار الكعبة المعظمة حينما كانت على قواعد إبراهيم، وقد انتقصته قريش من عرض أساس جدار الكعبة المعظمة، حين ظهر على وجه الأرض كما هي العادة في البناء.​

قال الأزرقي في تاريخه: وعدد حجارة الشاذروان التي حول الكعبة ثمانية وستون حجراً في ثلاثة وجوه من ذلك من حد الركن الغربي إلى الركن اليماني خمسة وعشرون حجراً، منها طول ثلاثة أذرع ونصف وهو عتبة الباب الذي سد في ظهر الكعبة، وبينه وبين الركن اليماني أربعة أذرع، وفي الركن اليماني حجر مدور، وبين الركن اليماني والركن الأسود تسعة عشر حجراً، ومن حد الشاذروان إلى الركن الذي فيه الحجر الأسود ثلاثة أذرع واثنا عشر إصبعاً ليس فيه شاذروان، ومن حد الركن الشامي إلى الركن الذي فيه الحجر الأسود ثلاثة وعشرون حجراً، ومن حد الشاذروان الذي يلي الملتزم إلى الركن الذي يلي الحجر الأسود ذراعان ليس فيها شاذروان وهو الملتزم، وطول الشاذروان في السماء ستة عشر إصبعاً( ).​

​​​​​​​

الملتزم:​​​​

​الملتزم هو ما بين الحجر الأسود وباب الكعبة، وسمي بالملتزم لأن الناس بلزمونه ويدعون عنده، وفضله عظيم، ولذلك ثبت أنه من المواطن التي يستجاب فيها الدعاء، وقال عبد الله بن عمرو بن العاص: {وقد التزم بين الباب والحجر، هذا والله المكان الذي رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم التزمه، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الملتزم موضع يستجاب فيه الدعاء ما دعا الله فيه عبد دعوة إلا استجابها}( ).​



ميزاب الكعبة:​

وأول من وضع ميزاباً للكعبة قريش حين بنتها سنة 35 من ولادة النبي صلى الله عليه وسلم، حيث كانت قبل ذلك بلا سقف،ثم لما بناها عبد الله بن الزبير رضي الله عنه الله عنهما وضع لها ميزاباً وجعل مصبه على حجر إسماعيل كما فعلت قريش.​

وقال الأزرقي: وذرع طول الميزاب أربعة اذرع، وسعته ثمانية أصابع في ارتفاع مثلها، والميزاب ملبس صفائح ذهب داخله وخارجه، وكان الذي جعل عليه الذهب الوليد بن عبد الملك( ).​

وقد وقع تغيير وتبديل في ميزاب الكعبة، وذلك لسببين:​



أحدهما كان إذا اعتراه خراب عمل غيره.​

والثاني: كان بعض الملوك أو الأغنياء من عظماء المسلمين يهدي الكعبة المشرفة ميزاباً فيركب في الكعبة وينزع الذي قبله( ).

وقد عمل السلطان عبد المجيد خان ميزاباً صنع بالقسطنطينية عام 1276هـ، وركب في نفس السنة وهو مصفح بالذهب نحو خمسين رطلاً.​

قلت وهو آخر ميزاب، وهو الموجود الآن بالكعبة المشرفة( ).​



​باب الكعبة:​

اختلف الرواة في أول من عمل للكعبة المعظمة باباً، فمنهم من قال له مصراعين وقفلاً، والقول الثالث: إن أول من وضع باباً على الكعبة المعظمة تبع الثالث أحد ملوك اليمن المتقدمين على البعثة النبوية بزمن بعيد، وهذا القول رواه ابن هشام في سيرته عن ابن إسحاق المطلبي، ورواه الأزرقي في تاريخ مكة( ).

​ولما عمرته قريش جعلت له باباً بمصراعين، وكان طوله أحد عشر ذراعاً، وكذلك ابن الزبير، فلما كان الحجاج عمل له باباً طوله ستة أذرع وشبر، وذلك أن الحجاج رفع باب الكعبة عما كان عليه في بناء ابن الزبير، لذلك صار طول الباب الذي عمله على قدر الفتحة( ).​

​​​

وفي العهد السعودي تم تركيب بابين، الأول في عهد الملك عبد العزيز رحمه الله، وقد كان عام 1363هـ، 1944م، حيث تم صنع باب جديد من الألمنيوم بسمك (2.5)سم، وارتفاعه (3.10) أمتار، ومدعم بقضبان من الحديد، وتمت تغطية الوجه الخارجي للباب بألواح من الفضة المطلية بالذهب، وزين الباب بأسماء الله الحسنى، وقد صنعه شيخ الصاغة.​



أما الباب الثاني فقد أمر بصنعه الملك خالد بن عبد العزيز رحمه الله، وقد برزت الفكرة عندما لاحظ الملك خالد عام 1397هـ - 17977م قدم الباب عندما صلى في جوف الكعبة، ورأى آثار خدوش في الباب، فأصدر توجيهاته فوراً بصنع باب جديد، وباب التوبة من الذهب الخالص، وكان لتوجيهات خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز (كان ولياً للعهد آنذاك) على أن يظهر العمل الجليل هذا بالصورة التي تتمناها نفس كل مسلم أثرها البالغ في ظهور الصورة الأخيرة التي برز بها الباب، وقد قام خادم الحرمين الشريفين الملك فهد حين ذاك بزيارة مقر العمل، وكان لهذه الزيارة الكريمة أثرها الفعال في دفع طاقة العمل والانطلاق به، وقد انتهينا من العمل قبل الموعد المحدد( ).​

​وقد تكلفت صناعة البابين - باب الكعبة - وباب التوبة - (13.420.000) من الريالات، عدا كمية الذهب التي تم تأمينها بواسطة مؤسسة النقد العربي السعودي، وكميتها مائتين وثمانين كيلوا جراماً، وكان الذهب عيار 9.999%( )، واستغرق العمل منذ بدء العمل التنفيذي فيه في غرة ذي الحجة عام 1398هـ، اثني عشر شهراً، وقد أقيمت ورشة خاصة لصناعته.​​

​​​​​​​

مواصفات باب الكعبة:​​​​

في البدء وضعت أسس مبدئية للباب، تتلخص في النقاط التالية:​



أولاً: تحقيق الانسجام بين التصميم الجديد للباب وستارة الباب باستخدام خط الثلث كعنصر هام مميز مع الزخرفة.​

​​​ثالثاً: تحقيق طريقة تنفيذ الزخرفة بالحفر والنقش على الذهب مع استخدام قليل من الفضة بالإمكانات المحلية وبواسطة شيخ الصاغة في مكة المكرمة.​

رابعاً: إمكانية الربط بين طريقة التنفيذ والزخرفة الإسلامية الأصيلة التي تمتد إلى التراث العريق في التزيين المعماري الهندسي.​

​خامساً: استخدام أحدث الطرق التقنية في الهيكل الإنشائي للتوصل إلى درجة عالية من المتانة والجودة بحيث يقوم الباب بوظيفته بدون الاحتياج إلى الصيانة.​



وفي ضوء هذه المبادئ تم بالنسبة للزخرفة اختيار طريقة التزيين التي تغطي المساحة، وهي من صميم التراث الفني الإسلامي نظراً لإمكانية تنفيذه بالحفر على الذهب، أما المساحات الباقية التي في الوسط فقد أخذت نفس روح فن الزخرف الإسلامي، حيث وضعت في وسطها دوائر لكتابة الآيات الكريمة بالطريقة المعتادة، مع إضافة زخرفات في الزوايا العلوية ليكون شكل الباب العام مقوساً دائرياً يحيط بالآيات القرآنية المكتوبة حسب الترتيب الموضع لها.​

وتمت التجارب المركزة في شكل إخراج الزخرفة، واكتشفت طريقة في النقش وإبراز الأشكال، وتباين المساحات والفصل بينها.​

واختيرت الزخرفة من أنواع متجانسة أهم عناصرها هي زخرفة الإطار البارزة، وهي الزخرفة التي تستمر في مستوى مكان القفل حيث تعطي له الأهمية اللازمة، لأن قفل الكعبة المشرفة له شخصية خاصة في الشكل التراثي والوظيفي.​

وأضيفت في الزاويتين العلويتين زخارف متميزة لإبراز شكل قوس يحيط بلفظ الجلالة (الله جل جلاله) واسم رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم والآيات القرآنية الكريمة:



((ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ)) [الحجر:46]​

((جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ)) [المائدة:97]​

((رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا)) [الإسراء:80]​

((كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ)) [الأنعام:54]​​



((وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ)) [غافر:60]​

ويلي ذلك حشوتان على شكل شمسين مشرقتين في وسطها كتابة (لا إله إلا الله محمد رسول الله) على شكل برواز دائري، وقد ثبتت على أرضية الحشوتين العلويتين حلقتا الباب اللتان تشكلان مع القفل وحدة متجانسة شكلاً ونسقاً.​

​وبين الحلقتين والقفل مساحة بارتفاع مناسب بغرض الفصل بين أنواع الزخارف المتجانسة شكلاً والمتباينة نسبة ليكون الشكل العام مريحاً للنظر، وكتب تحت الحشوتين العلويتين الآية الكريمة:​

((قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)) [الزمر:53]، والحشوتان اللتان تحت القفل، ففي وسطيهما كتبت سورة الفاتحة على شكل قرصين بارزين، وتحت هاتين الحشوتين، عبارات تاريخية بخط صغير: صنع الباب السابق في عهد خادم الحرمين الشريفين الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود سنة 1363هـ وتحتها: صنع هذا الباب في عهد خادم الحرمين الشريفين الملك خالد بن عبد العزيز آل سعود سنة 1399هـ.​

وضمن زخرفة خفيفة كتب في الدرفة اليمنى عبارة:​

​​​

(تشرف بافتتاحه بعون الله تعالى الملك خالد بن عبد العزيز آل سعود في الثاني والعشرين من شهر ذي القعدة سنة 1399هـ)، وفي الدرفة اليسرى، عبارة: صنعه أحمد إبراهيم بدر بمكة المكرمة، صممه منير الجندي، واضع الخط: عبد الرحيم أمين).​



​كما وضعت زخرفة دقيقة خاصة لأنف الباب المثبت على الدرفة اليسرى.​



أما الجانب فقد صممت بطريقة فنية ومثبتة حسب التصميم الزخرفي بعد مراعاة اللوحات الدائرية البارزة التي تحمل أسماء الله الحسنى وعددها خمسة عشر:

فوق الباب: يا واسع يا مانع يا نافع

الجانب الأيمن: يا عالم يا عليم يا حليم​

​​​

يا عظيم يا حكيم يا رحيم​



الجانب الأيسر: يا غني يا مغني يا حميد​

يا مجيد ياحنان يا مستعان​

وعلى القاعدة الخشبية ثبتت لوحات الذهب الخالص المزخرفة بطريقة النقش الحفر، وهذه القاعدة الخشبية مؤلفة من ثلاثة مستويات، في البروز عملت الزخرفة الإطارية المستمرة والثانية تحمل الآيات الكريمة.​



مقاسات الباب:​​​​

ويزيد ارتفاع باب الكعبة المشرفة عن ثلاثة أمتار، ويقارب عرضه المترين، وبعمق يقرب من النصف متر، وهو مكون من درفتين، ويتألف الهيكل الإنشائي من قاعدة خشبية بسماكة عشر​