عن نظام فتح باب الكعبة يحدثنا ناصر خسرو الذي حج سنة 442 هـ، فيقول!: حين! يجيء شيخ الحجبة يصاحبه خمسة أو ستة أفراد، وحين! يصلون ينضم إليهم عشرة من الحجاج فيرفعون السلم ويضعونه أمام الباب، فيصعد هذا الشيخ ويقف على العتبة...... ثم يدخل الشيخ ويصلي ركعتين!، ثم يعود فيفتح الباب على مصراعيه ويقف على العتبة...... ثم يقف الشيخ وأصحابه على جانبي باب الكعبة، في حين يأخذ الحجاج في الصعود ودخول الكعبة فيصلي كل منهم ركعتين! ثم يخرج. ويدوم ذلك إلى قرب منتصف النهار ويولون وجوههم أثناء صلاتهم بالكعبة نحو الباب مع جواز التوجه نحو الجوانب الأخري. وقد احصيت الناس في وقت كانت الكعبة ممتلئة فيه حتي لم يكن بها مكان لداخل فكانوا عشرين وسبعمائة رجل.
وأما ابن جبير الذي حج سنة 578 هـ، فيتحدث عن تخصيص يوم للنساء لدخول المسجد الحرام للطواف ولدخول الكعبة، ويقول: في اليوم التاسع والعشرين منه (شهر رجب)، وهو يوم الخميس، افرزوا البيت للنساء خاصة فاجتمعن في كل أدب، وقد تقدم احتفالهن لذلك بأيام كاحتفالهن للمشاهد الكريمة، ولم تبق امرأة بمكة إلا حضرت المسجد الحرام ذلك اليوم. فلما وصل الشيبيون لفتح البيت الكريم على العادة أسرعوا في الخروج منه وأفرجوا للنساء عنه وأفرج الناس لهن عن الطواف وعن الحجر، ولم يبق حول البيت المبارك أحد من الرجال وتبادر النساء إلى الصعود حتي كاد الشيببون لا يخلصون بينهن عند هبوطهم من البيت الكريم، وتسلسل النساء بعضهن ببعض وتشابكن حتى تواقعن فمن صائحة ومعولة ومكبرة ومهللة، وظهر من تزاحمهن ما ظهر من السرو اليمنيين مدة بقائهم بمكة وظل الأمر على ذلك صدراً من النهار وانفسحن في الطواف والحجر، وتشفين من تقبيل الحجر واستلام الأركان، وكان ذلك اليوم عندهن الأكبر ويومهن الأزهر، نفعهن الله به وجعله خالصا لكريم وجهه( )).
وأما التجيبي السبتي الذي دخل الكعبة وصلي في مكان مصلي النبي صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة الحادي والعشرين من شهر رمضان المعظم من سنة 696هـ فلم يذكر في حديثه اختلاط النساء بالرجال في الكعبة. فعن دخول النساء الكعبة يذكر ما نصه: (فأقام الناس بداخل البيت الشريف نحو ساعة، ثم خرج الذكور ودخل النساء فأقمن به أقل من مقام الذكور، ثم نزلن منه، وغلق كبير الشيبيين الباب المكرم.... وهكذا رأيتهم يفعلون كل يوم جمعة طول إقامتي بمكة المشرفة، ولا يفتحونه للناس إلا من جمعة إلى جمعة إلا أن يعرض عارض( )).
ويذكر حسين عبد الله باسلامه في حوادث سنة 976هـ لثلاث بقين من شهر رمضان أن الشيخ عبد الواحد الشيبي فتح الكعبة المشرفة للنساء على جاري العادة( ).
ويذكر العياشي المتوفي سنة 1090هـ، والذي حج ثلاث مرات: سنة 1059هـ، وسنة 1064هـ، وسنة 1072م، والذي جاور في مكة والمدينة في كل مرة، فيقول عن فتح باب الكعبة: (يفتح البيت عادة سبع مرات في السنة. يوم النحر لتعليق الكسوة الجديدة وإزالة العتيقة وليس بيوم دخول عام، ويكون فتحها في هذا اليوم عند طلوع الشمس، ويوم عاشوراء، ويوم المولد النبوي، وفي شعبان، وفي رمضان، وفي ذي القعدة. ويتمادي فتحها في غير يوم النحر من حل النافلة إلى الزوال، ويدخلها في غيره أيضاً كل من شاء ذلك من الرجال. وأما النساء فالعادة أنه كلما فتحت الكعبة يوماً للرجال فتحت في غيره لدخول النساء، ولا يقرب ساحة البيت يوم دخول النساء أحد من الرجال، كفعل النساء يوم دخول الرجال، ومن أضطر يوم دخول النساء لأجل عمرة طاف من وراء الأعمدة والقباب كلها فتلحقهم مشقة في ذلك( )).
وقد استمر انفراد النساء في دخول الكعبة المشرفة في اليوم المخصص لهن مدة طويلة. فالمؤرخ التركي أيوب صبري في كتابه (مرآة الحرمين) يذكر أن نواب (حاكم) مدينة رامبور Rampor بالهند كلب عليخان أهدى سنة 1297هـ/ 1879م درجًا خصص لدخول النساء الكعبة المشرفة ولخروجهن منها، وأن هذا الدرج صفحت درجاته المصنوعة من الحديد بصفائح الفضة الخالصة، كما صفحت جوانبه الخارجية بصفائح الذهب( ).
هذا ويذكر الشيخ محمد طاهر الكردي في كتابه (التاريخ القويم لمكة وبيت الله الكريم) أن هذا الدرج الخاص بالنساء أهداه كلب عليخان سنة 1300هـ/ 1882م، وأن درجاته وعددها أربع عشرة درجة مصنوعة من الخشب ومصفحة بألواح الفضة الخالصة، وأن هذا الدرج كان مخصصًا لصعود النساء إلى الكعبة المشرفة يوم نويتهن، ثم ترك استعماله بتاتًا. وقد بلغت قيمة ألواح الفضة التي صفحت بها درجاته وقتذاك 85364 روبية هندية. ولم يستعمل هذا الدرج للغرض الذي أهدي من أجله إلا بعد استئذان الدولة العلية التركية( ).
وقد شاهد هذا الدرج وانفراد النساء بالصعود عليه إلى باب الكعبة المشرفة لدخولها والنزول منها عليه في اليوم المخصص لهن الرحالة المصري صالح صبحي الذي أدي فريضة الحج سنة 1311هـ/ 1893م ودون مشاهدته لذلك في رحلته إلى مكة المكرمة والمدينة المنورة( ).
ويتابع الشيخ محمد طاهر الكردي حديثه عن هذا الدرج فيذكر أنه كان موجودًا بجوار الدرج الخاص بصعود الرجال إلى ما بعد سنة 1365 هـ/ 1975م ثم حصل فيه تلف وخراب فتصرف آل الشيبي في فضته وخشبه فلم يبق له اليوم من أثر( ).
وفي صورة التقطت لمكة المكرمة والحرم المكي سنة 1880م -كانت محفوظة في أرشيف مؤسسة الدراسات الشرقية بهولندا- يظهر درج الرجال ودرج النساء بجوار حجرة زمزم. وهذه الصورة التقطت بعد عام واحد فقط من إهداء كلب عليخان سنة 1297هـ/ 1879م لدرج النساء هذا، وهي تصحح التاريخ الذي ذكره الشيخ محمد طاهر الكردي لهذا الإهداء( ).
غير أنه يفهم مما ذكره باسلامه عن استحباب دخول الكعبة المشرفة والصلاة فيها (في أيامه) أنه لم يعد النساء ينفردن بدخولها، وفي هذا الصدد يقول: (ومما يستحب على داخل الكعبة المشرفة ألا يؤذي أحدًا ولا يتأذى هو، فإن آذى أو تأذى لم يدخل. هذا مما يغلط فيه كثير من الناس فيتزاحمون زحمة شديدة بحيث يؤذي بعضهم بعضًا، وربما انكشفت عورة بعضهم أو كبير منهم، وربما زاحم المرأة وهي مكشوفة الوجه واليد، وهذا كله خطأ يفعله جهلة الناس. أما قول الإمام النووي في تزاحم بعض العوام فهو صحيح، وقد رأيت تزاحم التكارنة والسليمانية وبعض الأعراب والعوام في العصر الحاضر مما يؤدي إلى الأذى فيضطر سدنة الكعبة في بعض الأحيان إلى قفل الباب دفعًا للضرر الذي يقع عن ذلك الزحام( )).
ويقول أيضًا: (وحاصل مما تقدم من اختلاف الروايات والأقوال، عن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في الكعبة، يدل على أن دخول الكعبة المشرفة والصلاة فيها والتكبير والتهليل سنة مستحبة، سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي من أفعاله وأعماله صلى الله عليه وسلم، ولا خلاف بين العلماء في استحباب دخول الكعبة والصلاة فيها بدون زحام مضر( ).فينبغي على داخل الكعبة المشرفة أن يترك القوة، ويقتدي بأعمال النبي صلى الله عليه وسلم، وأفعاله من الصلاة والاستغفار والتكبير والتهليل والتسبيح ولا يشتغل بغير ذكر الله( )).
ويقول أيضًا الكاتب المعاصر أحمد عبد الغفور عطار عن دخول الكعبة: (ودخول الكعبة ليس سنةً من سنن المناسك، وأبدى الرسول صلى الله عليه وسلم إيثاره عدم الدخول لئلا يشق على أمته( )، فالأفضل عدم الدخول إذا كان فيه مشقة أو أذى. وأنا رأيت في أيامنا ما في دخول الكعبة من الأذى ما تقشعر لهوله الأبدان، إذ بلغ التزاحم إلى حد أن يطأ الناس بعضهم بعضًا ويتقاتلوا حتى تنكشف العورات ، ويبلغ الهرج والصياح والصخب ما لا يقع في الأسواق مما لا يليق حدوثه في أقدس بقعة في الأرض وبين يدي الكعبة المعظمة)( ).
وسبق أن ذكرت أن الكعبة تفتح يومًا للرجال ويومًا للنساء. ويعطينا الشيخ الكردي في كتابه (التاريخ القويم لمكة وبيت الله الكريم) مواعيد فتح الكعبة في الإسلام والمناسبات التي يخصص فيها يومًا للرجال ويومًا للنساء في أيامه. فالكعبة تفتح يوم الاثنين ويوم الجمعة إلا في رجب تفتح في كل يوم، وقد تفتح في أي وقت لمن يريد زيارتها من الحجاج، ويكون ذلك ميسورًا في اليوم العاشر للرجال، وفي الحادي عشر منه للنساء. وفي يوم 10 محرم للرجال، وفي يوم 11 منه للنساء. وفي ليلة 12 ربيع الأول. وفي يوم 12 ربيع الأول للرجال، وفي ليلة 13 منه للنساء. وفي يوم 21 ربيع الأول لغسلها. وفي أول جمعة من رجب للرجال، وفي اليوم التالي للنساء. وفي ليلة 27 رجب للدعاء لجلالة الملك. وفي يوم 27 رجب للرجال، وفي المساء للنساء. وفي ليلة نصف شعبان للدعاء. وفي يوم 15 شعبان للرجال، وفي المساء للنساء. وفي يوم الجمعة الأول من رمضان للرجال، وفي اليوم التالي للنساء. وفي ليلة 17 رمضان للدعاء لجلالة الملك، وفي آخر جمعة من رمضان للدعاء أيضًا. وفي نصف ذي القعدة للرجال، وفي اليوم التالي للنساء. وفي 20 ذي القعدة لغسلها، وبعض الناس ينتهز فرصة غسل الكعبة ويدخل مع الغاسلين( ).
وأما الآن فالكعبة لا تفتح إلا مرتين في العام، الأولى: في أول شعبان لغسيلها، والثانية: في أول ذي الحجة لغسيلها ولتعليق الكسوة الجديدة، كما تفتح بإذن من جلالة الملك لدخول ضيوف المملكة.
ولم تعد الكعبة تفتح الآن للدخول العام منعًا للضرر والأذى الذي يقع بسبب تزاحم الرجال والنساء على دخولها، والذي تقشعر منه الأبدان -كما جاء في وصف أحمد عبد الغفور عطار- وبخاصة بعد أن بلغ عدد الحجاج والمعتمرين في السنوات الأخيرة أعدادًا تتعدي المليونين الأمر الذي يستحيل فيه على سدنة الكعبة ورجال الأمن السيطرة على الموقف حفاظاً على قدسية الكعبة.
فعن سدانة الكعبة في الإسلام تجمع المصادر على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، عندما جاءه عثمان بن أبي طلحة بمفتاح الكعبة دفعه إليه وقال له: {خذوها يا بني أبي طلحة خالدةً تالدةً لا ينزعها منكم إلا ظالم، يا عثمان! إن الله استأمنكم على بيته فخذوها بأمانة الله}. وفي حديث آخر عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: {يا بني شيبة هاكم المفتاح وكلوا بالمعروف}، وفي رواية أخري.. {خذوها خالدةً تالدةً يا بني أبي طلحة بأمانة الله واعملوا فيها بالمعروف فلا ينزعها منكم إلا ظالم}، أو.. {يا بني شيبة كلوا مما يصل إليكم من هذا البيت بالمعروف( )}.
ولم يكن سدنة الكعبة في القرون الأولى من الإسلام يتعرضون لأحد من الحجاج أو يقبلون من أحد ممن يدخل الكعبة شيئاً. وقد سبق أن ذكرنا ما كان من سالم بن عبد الله الحجبي عندما دخل الكعبة مع هشام بن عبد الملك، وأبي أن يسأله شيئًا من حوائج الدنيا عندما طلب منه هشام بن عبد الملك أن يسأله ما يحتاجه، وما كان من منصور الحجبي مع المهدي، قوله له: إني لأستحي أن أسأل في بيته غيره. ويذكر في هذا الصدد أن هشام بن عبد الملك رتب لسالم بن عبد الله الحجبي ترتيبًا في كل سنة، وأن المهدي اشترى لعبيد الله بن عثمان الحجبي وادي الليمون( ). وقد أصبح ذلك عادة جرى عليها خلفاء( ) وسلاطين وملوك المسلمين على امتداد العصور الإسلامية وحتى وقتنا الحاضر، فقد خصصوا لسدنة الكعبة مخصصات شهريةً أو سنويةً وأرزاقاً وخلعًا، كما خصصوا للكعبة نفقات سرجها وطيبها.
فعن أرزاق بني شيبة ونفقات الكعبة يقول عبيد الله البكري (413-496هـ):
(ثمن الزيت لسرجها أربعة آلاف دينار وثلثمائة دينار كل عام، والنفقة لطيب الكعبة ثلاثة آلاف دينار وستمائة دينار وسبعون دينارًا، ويحمل للمجاورين بها من العين خمسة آلاف وثلثمائة، ومن الورق إحدى وعشرون ألفًا( )).
وقد أجمع العلماء على أن ما يأخذه السدنة من زوار الكعبة وما يهدي وينذر لها يحل لهم أخذه لأنه كل بالمعروف. فيروي الفاكهي من طريق بشر بن السري عن عبد الرحمن الزجاج، قال: سألت شيبة بن عثمان الحجبي عما يأخذه من زوار الكعبة وما يهدي وينذر لها، قال: لنا أخذه. ويروي الفاكهي أيضًا من طريق مسافع بن عبد الرحمن الحجبي أن رجلاً ذهب إلى عمر وسأله عما يأخذه شيبة من زوار الكعبة وما يهدي وما ينذر لها ومنعه لبعض الزوار، فقال عمر: له ذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يمنعه( ). ويضرب المثل في ذلك بالإمام أبي حنيفة عندما دخل الكعبة وصلى بها وأعطى السادن ألف دينار( ).
هذا وقد حفظ لنا التاريخ بعض النماذج الطيبة من تراجم سدنة الكعبة. ومن هؤلاء شيبة ابن عثمان الذي تولى السدانة بعد وفاة ابن عمه عثمان بن أبي طلحة الذي مات عقيمًا سنة 42هـ، وإليه ينتهي نسب السدنة حتى وقتنا الحاضر. فقد أسلم شيبة بن عثمان، على أصح الروايات يوم حنين، وقيل إنه أسلم يوم الفتح. وكان شيبة قد حاول اغتيال النبي صلي الله عليه وسلم يوم حنين، فقذف الله في قلبه الرعب، فوضع النبي صلي الله عليه وسلم يده على صدره فقذف الله في قلبه الإيمان، وقاتل بين يديه وكان ممن صبر معه يومئذ. وأقام شيبة بن عثمان للناس الحج سنة 39 هـ، وكان سبب ذلك أن علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، بعث قثم بن العباس ليقيم للناس الحج، وبعث معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، يزيد بن شجرة فتنازعا فسعى بينهما أبو سعيد الخدري وغيره فاصطلحا على أن يقيم الحج شيبة بن عثمان ويصلي بالناس. وقد روى شيبة بن عثمان عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وتوفي سنة 59هـ في أيام معاوية بن أبي سفيان، وقيل: بل توفي في أيام ابنه يزيد.