مقام إبراهيم - عليه السلام - : هو ذلك الحجر الأثري الذي قام عليه إبراهيم عليه السلام عند بناء الكعبة المشرفة لما ارتفع البناء .
قال ابن كثير في تفسيره لقول الله تعالى :
«المراد بالمقام إنما هو الحَجَرُ الذي كان إبراهيم - عليه السلام - يقوم عليه لبناء الكعبة. لما ارتفع الجدار أتاه إسماعيل عليه السلام به ؛ ليقومَ فوقه ، ويناوله الحجارة ، فيضعها بيده لرفع الجدار، كلَّما كَمَّل ناحية انتقل إلى الناحية الأخرى ، يطوف حول الكعبة ، وهو واقف عليه ، كلما فرغ من جدار نقله إلى الناحية التي تليها هكذا ، حتى تم جدارات الكعبة ... وكانت آثار قدميه ظاهرة فيه ، ولم يزل هذا معروفًا تعرفه العرب في جاهليتها ؛ ولهذا قال أبو طالب في قصيدته المعروفة اللامية:
ومَوطئُ إبراهيم في الصخر رطبة على قدميــه حافيًا غــــير ناعل
وقد أدرك المسلمون ذلك فيه أيضًا » انتهى .
وقصة بناء إبراهيم وإسماعيل للكعبة المعظمة ووقوف إبراهيم عليه السلام على حجر المقام رواها البخاري في صحيحه في حديث طويل عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : « ... ثم قال : يا إسماعيل إن الله أمرني بأمر ، قال: فاصنع ما أمرك ربك . قال : وتعينني؟ قال : وأعينك . قال : فإن الله أمرني أن أبني ها هنا بيتًا ، وأشار إلى أكمة مرتفعة على ما حولها ، قال : فعند ذلك رفعا القواعد من البيت ، فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة ، وإبراهيم يبني ، حتى إذا ارتفع البناء ، جاء بهذا الحَجَر فوضعه له ، فقام عليه وهو يبني ، وإسماعيل يناوله الحجارة ، وهما يقولان:
قال : فجعلا يبنيان حتى يدورا حول البيت ، وهما يقولان :
» .
فضائل مقام إبراهيم عليه السلام :
من فضائله : أن الله تعالى نوه بذكره من جملة آياته البينات ، فقال عز وجل :
قال ابن جرير في تفسير هذه الآية : « إن أول بيت وضع للناس مباركًا وهدى للعالمين ، للذي ببكة فيه علامات بينات من قدر الله وآثار خليله إبراهيم ، منهن أثر قدم خليله إبراهيم - عليه السلام - في الحَجَر الذي قام عليه » .
ومن فضائله : أن الله تعالى أمر المسلمين باتخاذه مصلى في الحج والعمرة ، وذلك في قوله تعالى :
ومن فضائله : أنه ياقوتة من يواقيت الجنة ، فقد روى الإمام أحمد والترمذي وابن خزيمة وابن حبان والحاكم عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أنه قال : أنشد بالله ثلاثًا ووضع أصبعه في أذنيه ، لسمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يقول : « إن الركن والمقام ياقوتتان من ياقوت الجنة ، طمس الله نورهما ، ولولا أن الله طمس نورهما لأضاءتا ما بين المشرق والمغرب » .
ومن فضائله : أن إبراهيم عليه السلام وقف عليه كما أمره الله عز وجل وأذن في الناس بالحج . فقد روى الفاكهي عن ابن عباس رضي الله عنهما : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « لما فرغ إبراهيم عليه السلام من بناء البيت أمره الله عز وجل أن ينادي في الحج ، فقام على المقام ، فقال : يا أيها الناس إن ربكم قد بنى بيتًا فحجوه، وأجيبوا الله عز وجل ، فأجابوه في أصلاب الرجال وأرحام النساء : أجبناك ، أجبناك ، أجبناك ، اللهم لبيك ، قال : فكل من حج اليوم فهو ممن أجاب إبراهيم على قدر ما لبى » وصحح إسناده ابن حجر .
صفة مقام إبراهيم عليه السلام وذرعه :
قال المؤرخ باسلامة : « وأما صفة حَجَر المقام ، فهو حجر رخْو من نوع حجر الماء ، ولم يكن من الحجر الصوان ، وهو مربع على وجه الإجمال ، ومساحته ذراع يد في ذراع يد طولاً وعرضًا وارتفاعًا ، أو نحو خمسين سنتيمتر في مثلها طولاً وعرضًا وارتفاعًا ، وفي وسطه أثر قدمي إبراهيم الخليل - عليه السلام - ، وهي حفرتان على شكل بيضوي مستطيل ، وقد حفرهما الناس بمسح الأيدي ووضع ماء زمزم فيها مرات عديدة ، فنتج من كثرة مرور الأيدي في أثر القدمين واستبدال موضعهما حفرتان ، كما دل على ذلك الروايات . وقد رأيت حَجَر المقام بعيني سنة (1332هـ) بصحبة صاحب الفضيلة رئيس السدنة في تلك السنة محمد صالح بن أحمد بن محمد الشيبي ، فوجدته مصفحًا بالفضة ، وهو موضوع على قاعدة ، وشكله مربع كما وصفته ، ولونه بين البياض والسواد والصفرة ، ورأيت أثر القدمين » .
المسرد التاريخي للمقام وتحريكه عن مكانه :
لقد كان مقام إبراهيم عليه السلام ملاصقًا لجدار الكعبة المشرفة ، واستمر كذلك في عهد الجاهلية وعهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وعهد أبي بكر الصديق ، وإنما أخره عن جدار الكعبة الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه .
روى البيهقي بإسناد صحيح عن عائشة رضي الله عنها قالت: « إن المقام كان زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وزمان أبي بكر رضي الله عنه ملتصقًا بالبيت ، ثم أخره عمر بن الخطاب رضي الله عنه» .
قال ابن كثير : « وقد كان المقام ملصقًا بجدار الكعبة قديمًا ، ومكانه معروف اليوم إلى جانب الباب مما يلي الحَجَر يمنة الداخل من الباب في البقعة المستقلة هناك، وكان الخليل عليه السلام لما فرغ من بناء البيت وضعه إلى جدار الكعبة ، أو أنه انتهى عنده البناء فتركه هناك؛ ولهذا -والله أعلم-أمر بالصلاة هناك عند فراغ الطواف، وناسب أن يكون عند مقام إبراهيم حيث انتهى بناء الكعبة فيه.
وإنما أخره عن جدار الكعبة أمير المؤمنين عُمَرُ بن الخطاب رضي الله عنه وهو أحدُ الأئمة المهديين والخلفاء الراشدين، الذين أُمِرْنا باتباعهم، وهو أحد الرجلين اللذين قال فيهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "اقتدوا باللَّذَين من بعدي أبي بكر وعمر". وهو الذي نزل القرآن بوفاقه في الصلاة عنده ؛ ولهذا لم ينكر ذلك أحد من الصحابة، رضي الله عنهم أجمعين » انتهى .
ويقول ابن حجر أيضًا : « وكان المقام من عهد إبراهيم لزق البيت إلى أن أخره عمر رضي الله عنه إلى المكان الذي هو فيه الآن ، ولم ينكر الصحابة فعل عمر ولا من جاء بعدهم ، فصار إجماعًا ، وكان عمر رأى أن إبقاءه يلزم منه التضييق على الطائفين أو على المصلين ، فوضعه في مكان يرتفع به الحرج ، وتهيأ له ذلك ، لأنه الذي أشار باتخاذه مصلى ، وأول من عمل عليه المقصورة الآن » .
بيد أن السيول كانت تدخل المسجد الحرام ، وكانت هذه السيول ربما دفعت المقام عن موضعه ، وربما نحته إلى وجه الكعبة ، ومن هذه السيول سيل يقال له : سيل أم نهشل ، كان سببًا في تحرك المقام عن موضعه الذي وضعه فيه عمر رضي الله عنه . فجاء عمر وردَّه إلى مكانه الذي تحول عنه .
فقد روى ابن أبي حاتم في تفسيره بإسناد صحيح عن سفيان بن عيينة وهو إمام المكيين في زمانه قال : « كان المقام في سقع البيت على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - فحوله عمر إلى مكانه بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وبعد قوله تعالى :
قال : ذهب السيل به بعد تحويل عمر إياه من موضعه ، فرده عمر إليه» .
وقد كان مقام إبراهيم محاطًا بالاهتمام من قبل الخلفاء والملوك والحكام والأمراء ، فكان أول من حلاه الخليفة المهدي سنة 160هـ ، حيث بعث بألف دينار ؛ لتضبيب المقام بالذهب .
وفي عهد أمير المؤمنين جعفر المتوكل على الله سنة 236هـ ، جعل ذهبًا فوق الذهب بأحسن منه عملا . وكذلك في سنة 251هـ في خلافة المتوكل . وفي سنة 256هـ من عامل مكة علي بن الحسن العباسي .
وذكر الأزرقي أن المقام في عصره كان في حوض من ساج مربع حوله رصاص مُلَبَّن به ، وعلى الحوض صفائح رصاص ملبس بها ، ومن المقام في الحوض أصبعان ، وعلى المقام صندوق ساج مسقف ، ومن وراء ملبن ساج في الأرض في طرفيه سلسلتان تدخلان في أسفل الصندوق ، ويقفل فيهما قفلان . ومثله وصف الفاكهي أيضًا .
ووصف الفاسي المقام على ما كان في عهده (في القرن التاسع) ، قال : « أما صفة الموضع المشار إليه فإنه الآن قبة عالية من خشب ثابتة قائمة على أربعة أعمدة دقاق ، حجارة منحوتة بينهما أربعة شبابيك من حديد من الجهات الأربعة ، ومن الجهة التي يدخل إلى المقام ، والقبة مما يلي المقام منقوشة مزخرفة بالذهب مما يلي السماء مبيضة بالنورة ، وأما موضع المصلى الآن فإنه ساباط مزخرف على أربعة أعمدة ، فهما عمودان عليهما القبة ، وهو متصل بها ، وهو مما يلي الأرض منقوش مزخرف بالذهب ، ومما يلي السماء مبيض منور ، وأحدث وقت صنع فيه ذلك شهر رجب سنة عشر وثمانمائة ، واسم الملك الناصر فرج صاحب الديار المصرية والشامية مكتوب فيه بسبب هذه العمارة ، واسم الملك الناصر محمد بن قلاوون الصالحي صاحب مصر مكتوب في الشباك الشرقي في هذا الموضع لسبب عمارته له في سنة ثمان وعشرين وسبعمائة ، والمقام بين الشبابيك الأربعة الحديد في قبة من حديد ثابت في الأرض برصاص مصبوب ، بحيث لا يستطاع قلع القبة الحديد التي فوقه إلا بالمعاول وشبهها » .
وقد جددت قبة المقام في سنة (900هـ) وفي سنة (915هـ ) وفي سنة (1001هـ) وفي سنة (1049هـ) وفي سنة (1072هـ) وفي سنة (1099هـ) وفي سنة (1102هـ) وفي سنة (1133هـ) .
وجرت العادة من زمن سلاطين آل عثمان من حيث قاموا بعمل كسوة الكعبة المعظمة أنهم كانوا يكسون مقام إبراهيم بكسوة سوداء مطرزة بأسلاك الفضة المموهة بالذهب على شكل ستارة باب الكعبة والحزام ، وتوضع هذه الكسوة على التابوت الخشبي الذي هو داخل الشباك الحديد فوق حجر المقام .
وبقي المقام على هيئته الأخيرة إلى سنة (1387هـ) حيث تم إزالة المقصورة التي عليه وجعله في غطاء بلوري .
ففي عهد الملك فيصل رحمه الله كانت هناك آراء بنقل مقام إبراهيم عليه السلام إلى الخلف ؛ ليحصل بذلك توسعة على الطائفين ، وكانت هناك آراء مخالفة بعدم نقله من مكانه ، فأحيلت المسألة إلى المجلس التأسيسي لرابطة العالم الإسلامي ، الذي اتخذ في جلسته الحادية عشرة المنعقدة بتاريخ 25/12/1384هـ قرارًا ، والذي جاء في مقدمة نصه : « تفاديًا لخطر الزحام أيام موسم الحج ، وحرصًا على الأرواح البريئة التي تذهب في كل سنة تحت أقدام الطائفين ، الأمر الذي ينافي سماحة الشريعة الإسلامية ويسرها ، وعدم تكليفها النفس البشرية أكثر مما في وسعها ، يقرر المجلس الموافقة على المشروع الآتي ورفعه إلى الجهات السعودية » .
وتحقيقًا للقرار هدم البناء القائم على المقام ، وجعل في غطاء مقبب من البلور الشفاف الثمين (كريستال) ؛ ليسهل من خلاله رؤية حَجَر المقام وآثار قدمي إبراهيم عليه السلام . وقد غلف الغطاء البلوري بشبكة معدنية مذهبة تحمل قبة لطيفة صغيرة وهلالاً في أعلاه . وقاعدة المقام على بناء بيضاوي من الخراسانة المسلحة مكسوة بالرخام الأسود في مترين مربعًا .
وهو المشاهد اليوم ، بحيث لم يتحول عن مكانه الذي كان فيه ، منذ عهد الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه .
وفي عصر يوم السبت 18 رجب 1387هـ أزاح الستار عن المقام بغطائه البلوري جلالة الملك فيصل بن عبد العزيز رحمه الله في حفل بهيج بهذه المناسبة .
وفي عهد خـادم الحرمين الشريفين الملك فهـد بن عبد العزيز رحمه الله ، وبناء على توجهياته بالأمر السامي الكريم رقم (14318) وتاريخ 25/9/1417هـ تم الشروع في ترميم محـل مقام إبراهيم عليه السلام . وفي هذا الترميم تم استبدال الهيكل المعدني الذي كان مركبًا على مقام إبراهيم عليه السلام بهيكل آخر جديد مصنوع من نحاس ذي جودة عالية ، كما تم تركيب شبك داخلي مطلي بالذهب ، وتم استبدال كساء القاعدة الخرسانية للمقام التي كانت مصنعة من الجرانيت الأسود ورخام من وادي فاطمة بقاعدة أخرى ، مصنعة من رخام كرارة الأبيض الصافي ، والمحلى بالجرانيت الأخضر ؛ ليماثل في الشكل رخام الحِجِر ، وشكل الغطاء البلوري مثل القبة نصف الكرة، ووزنه (1.750) كجم، وارتفاعه (1.30) م ، وقطره من الأسفل (40) سم ، وسمكه (20) سم من كل الجهات ، وقطره من الخارج من أسفله (80) سم ، ومحيط دائرته من أسفله (2.51)م .
وقد أصبح محل المقام بعد هذه التحسينات انسيابيًا وقبل ذلك كان مضلعًا. وقد شملت التحسينات الهيكل والقبة والهلال إضافة إلى القاعدة الخرسانية، وقد تمت هذه الترميمات مع الحرص الشديد على عدم تحريك المقام من موقعه .