خطب وأم المصلين فضيلة الشيخ الدكتور أحمد بن علي الحذيفي إمام وخطيب المسجد النبوي الشريف.
وبعد أن حمد الله تعالى بدأ خطبته قائلاً: إن هذا المنبر النبوي كان منطلق بيان رسالة الإسلام، ومنبر دعوته ومطلع شمسه، من مشرق هجرته إلى مغرب الدنيا، ذرت من أفقه شمس البيان النبوي، وتضوع ريّاه من أكمامه، وانبجست عينه من معينه، وسمقت شجرته من بين حصبائه، من ههنا خطب المصطفى صلى الله عليه وسلم فوجِم البلغاء، وأطرق الفصحاء، وأُفحم الخطباء، وأصاخت أُذن الزمان إلى منطق يفيض بالبيان، ويموج بالرحمة، ويتضوع بالعدل، وينضح بالصدق، يتخلل حنايا الصدور، ويستجيش خبايا النفوس، كأن كلماته لؤلؤ منثور أو روض ممطور:
رقيقاتُ المقاطع محكمات...لو أن اللفظ يُلبس لارتُدينا. إنه صلى الله عليه وسلم فارس المنابر ومصقع الخطباء، لاتدري حين كان يرقى هذا المنبر الأشرف أضم خطيباً أم ضُمّخ طيباً، كان يرقى منبره فينهمل عليه من غمائم الوحي ما يعمر القلوب يقيناً، ويملؤ النفوس حنيناً، يستحث سحائب العيون، ويستدر مدامع القلوب.
وأكمل فضيلته: كان إذا خطب صلى الله عليه وسلم احمرت عيناه وعلا صوته واشتد غضبه حتى كأنه منذر جيش يقول: صبحكم ومسّاكم، كان يتكلم بالكلام الذي ألقى الله عليه المحبة، وغشّاه بالقبول، وجمع له بين المهابة والحلاوة، وبين حسن الإفهام، وقلة عدد الكلام، مع استغنائه عن إعادته، وقلة حاجة السامع إلى معاودته، لم تسقط له كلمة، ولا زلت به قدم، ولا بارت له حجة، ولم يقم له خصم، ولا أفحمه خطيب، بل يبذ الخطبَ الطوال بالكلم القصار، ولا يلتمس إسكات الخصم إلا بما يعرفه الخصم، ولا يحتج إلا بالصدق، ولا يطلب الفَلَج إلا بالحق، ولا يستعين بالخِلابة، ولا يستعمل المواربة، ولا يهمز ولا يلمز، ولا يبطئ ولا يعجل، ولا يسهب ولا يحصر، ثم لم يسمع الناس كلاماً قط أعم نفعاً، ولا أقصد لفظاً ولا أعدل وزناً ولا أجمل مذهباً، ولا أكرم مطلباً، ولا أحسن موقعاً، ولا أسهل مخرجاً، ولا أفصح معنى، ولا أبين في فحوى، من كلامه صلى الله عليه وسلم.
وأضاف: إن المنبر صهوة ينبغي أن يرتقيها من كان رابط الجَنان ممسكاً بعنان البيان، جامعاً لذلك عُدةَ العلم مثقفاً لذلك رماح الرأي، متدرعاً بالإخلاص لله في حاله ومقاله، فهو من أعظم وسائل البلاغ عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم والنصح لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم، والتذكير بما يجب التذكير به من العلم النافع والعمل الصالح على منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنهج سلف هذه الأمة رضوان الله عليهم على أن دعوة الإسلام لا تقتصر على وسيلة المنبر وحده، فلا تقف دونه ولا تنتهي إليه، بل هي رسالة تتجلى في جميع جوانب حياة المسلم دعوة وعملاً وعقيدة وأخلاقاً، فعن سعد بن هشام بن عامر، قال: أتيت عائشة، فقلت: يا أم المؤمنين، أخبريني بخلق رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: (كان خلقه القرآن).
ولكن صاحب الكلمة الصادقة حين يستل لسانه استلال السيف من غمده، ويغمسه في مداد البيان وتختلط حروف بلاغته وبيانه بروحه وعقيدته وإيمانه فتشرق كلماته في النفوس والأرواح إشراقة شمس الضحى، ويستعر أوارها في القلوب استعار النار في جزل الغضا، وحين تخرج الكلمات خابيةً خامدةً لا روح فيها من روح المتكلم تخرج ميتةً هامدةً، إن روح المتكلم لتصطبغ بها كلماته وعباراته اصطباغ الزهر بألوانه والربيع بأثماره والزجاج بشرابه وههنا يتجلى الصدق وتلوح أماراته، فلا تزويق الألفاظ يحرك القلوب، ولا تنميق العبارات يشعل النفوس، ما لم توقد جذوتها بحرارة الصدق.
واختتم فضيلته الخطبة بقوله: إن للكلمة في منابر التأثير التي تعددت في عالم اليوم خطراً أي خطر وأثراً أي أثر، ولا سيما من هشّت إليه الأسماع، وارتاحت له القلوب، ورزقه الله حسن الإبانة عن مراده، وآتاه حظاً من القبول بين عباده، فإنها حينئذ أمانة ثقيلة الإد على حاملها، عظيمة المؤاخذة على قائلها، تستوجب على المتكلم أن يزنها بميزانها، وأن يحلها في مكانها، فربما كانت كالغيث إذا انهلت غواديه، أوكانت كالسهم يُصمي إذا أخطأ راميه، قال صلى الله عليه وسلم: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت).
وبعد أن حمد الله تعالى بدأ خطبته قائلاً: إن هذا المنبر النبوي كان منطلق بيان رسالة الإسلام، ومنبر دعوته ومطلع شمسه، من مشرق هجرته إلى مغرب الدنيا، ذرت من أفقه شمس البيان النبوي، وتضوع ريّاه من أكمامه، وانبجست عينه من معينه، وسمقت شجرته من بين حصبائه، من ههنا خطب المصطفى صلى الله عليه وسلم فوجِم البلغاء، وأطرق الفصحاء، وأُفحم الخطباء، وأصاخت أُذن الزمان إلى منطق يفيض بالبيان، ويموج بالرحمة، ويتضوع بالعدل، وينضح بالصدق، يتخلل حنايا الصدور، ويستجيش خبايا النفوس، كأن كلماته لؤلؤ منثور أو روض ممطور:
رقيقاتُ المقاطع محكمات...لو أن اللفظ يُلبس لارتُدينا. إنه صلى الله عليه وسلم فارس المنابر ومصقع الخطباء، لاتدري حين كان يرقى هذا المنبر الأشرف أضم خطيباً أم ضُمّخ طيباً، كان يرقى منبره فينهمل عليه من غمائم الوحي ما يعمر القلوب يقيناً، ويملؤ النفوس حنيناً، يستحث سحائب العيون، ويستدر مدامع القلوب.
وأكمل فضيلته: كان إذا خطب صلى الله عليه وسلم احمرت عيناه وعلا صوته واشتد غضبه حتى كأنه منذر جيش يقول: صبحكم ومسّاكم، كان يتكلم بالكلام الذي ألقى الله عليه المحبة، وغشّاه بالقبول، وجمع له بين المهابة والحلاوة، وبين حسن الإفهام، وقلة عدد الكلام، مع استغنائه عن إعادته، وقلة حاجة السامع إلى معاودته، لم تسقط له كلمة، ولا زلت به قدم، ولا بارت له حجة، ولم يقم له خصم، ولا أفحمه خطيب، بل يبذ الخطبَ الطوال بالكلم القصار، ولا يلتمس إسكات الخصم إلا بما يعرفه الخصم، ولا يحتج إلا بالصدق، ولا يطلب الفَلَج إلا بالحق، ولا يستعين بالخِلابة، ولا يستعمل المواربة، ولا يهمز ولا يلمز، ولا يبطئ ولا يعجل، ولا يسهب ولا يحصر، ثم لم يسمع الناس كلاماً قط أعم نفعاً، ولا أقصد لفظاً ولا أعدل وزناً ولا أجمل مذهباً، ولا أكرم مطلباً، ولا أحسن موقعاً، ولا أسهل مخرجاً، ولا أفصح معنى، ولا أبين في فحوى، من كلامه صلى الله عليه وسلم.
وأضاف: إن المنبر صهوة ينبغي أن يرتقيها من كان رابط الجَنان ممسكاً بعنان البيان، جامعاً لذلك عُدةَ العلم مثقفاً لذلك رماح الرأي، متدرعاً بالإخلاص لله في حاله ومقاله، فهو من أعظم وسائل البلاغ عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم والنصح لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم، والتذكير بما يجب التذكير به من العلم النافع والعمل الصالح على منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنهج سلف هذه الأمة رضوان الله عليهم على أن دعوة الإسلام لا تقتصر على وسيلة المنبر وحده، فلا تقف دونه ولا تنتهي إليه، بل هي رسالة تتجلى في جميع جوانب حياة المسلم دعوة وعملاً وعقيدة وأخلاقاً، فعن سعد بن هشام بن عامر، قال: أتيت عائشة، فقلت: يا أم المؤمنين، أخبريني بخلق رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: (كان خلقه القرآن).
ولكن صاحب الكلمة الصادقة حين يستل لسانه استلال السيف من غمده، ويغمسه في مداد البيان وتختلط حروف بلاغته وبيانه بروحه وعقيدته وإيمانه فتشرق كلماته في النفوس والأرواح إشراقة شمس الضحى، ويستعر أوارها في القلوب استعار النار في جزل الغضا، وحين تخرج الكلمات خابيةً خامدةً لا روح فيها من روح المتكلم تخرج ميتةً هامدةً، إن روح المتكلم لتصطبغ بها كلماته وعباراته اصطباغ الزهر بألوانه والربيع بأثماره والزجاج بشرابه وههنا يتجلى الصدق وتلوح أماراته، فلا تزويق الألفاظ يحرك القلوب، ولا تنميق العبارات يشعل النفوس، ما لم توقد جذوتها بحرارة الصدق.
واختتم فضيلته الخطبة بقوله: إن للكلمة في منابر التأثير التي تعددت في عالم اليوم خطراً أي خطر وأثراً أي أثر، ولا سيما من هشّت إليه الأسماع، وارتاحت له القلوب، ورزقه الله حسن الإبانة عن مراده، وآتاه حظاً من القبول بين عباده، فإنها حينئذ أمانة ثقيلة الإد على حاملها، عظيمة المؤاخذة على قائلها، تستوجب على المتكلم أن يزنها بميزانها، وأن يحلها في مكانها، فربما كانت كالغيث إذا انهلت غواديه، أوكانت كالسهم يُصمي إذا أخطأ راميه، قال صلى الله عليه وسلم: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت).