الثلاثاء, 21 شباط/فبراير 2023 21:09

الرئيس العام في محاضرته العلمية ضمن برنامج صناعة الأصولي الثانية: علم أصول الفقه من العلوم التي ازدوج فيه العقل والسمع، واصطحب فيه الرأي والشرع

قيم الموضوع
(1 تصويت)


ضمن برنامج صناعة الأصولي في موسمه الثاني لعام ١٤٤٤هـ ألقى معالي الرئيس العام لشؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي الشيخ الدكتور عبدالرحمن بن عبدالعزيز السديس محاضرة علمية بعنوان : (علم أصول الفقه وأثره في تنمية الملكة الفكرية الصحيحة).

واستهل معاليه المحاضرة بشرح مفصل لعلم أصول الفقه فقال: فإنَّ علم أصول الفِقه هو قوام الدين، وَالْمَرْقَى إلى درجات المتَّقين. وجواده الذي لا يلحق، وحبله المتين الذي هو أقوى وأوثق، فإنه قاعدة الشَّرع، وأصل يرد إليه كلّ فرع، وهو أَوْلَى مَا صُرِفَتْ الْهِمَمُ إلَى تَمْهِيدِهِ، وَأَحْرَى مَا عُنِيَتْ بِتَسْدِيدِ قَوَاعدِهِ وتَشْيِيدِهِ، يجتمعُ فيه معاقد النَّظر، ومسالِك العِبر؛ فما أغْزر فوائده، وَأكثر فرائده، فما نُسج فنٌّ على منواله، ولا عِلْمٌ على مثاله؛ ولذا قالَ الإمَامُ الإسْنويُّ: «فإنَّ أصول الفقه عِلم عظم نفعه وقدره، وعلا شرفه وفخره؛ إذ هو مثار الأحكام الشرعيَّة، ومنار الفتاوى الفرعيَّة التي بها صلاح المكلفين معاشًا ومعادًا ثم إنه العمدة في الاجتهاد».

وقال معاليه : إن علم أصول الفقه من العلوم التي ازدوج فيه العقل والسمع، واصطحب فيه الرأي والشرع، فليس مبني على محض العقل الذي ينافي الشرع، ولا على محض التقليد الذي يغفل العقل تماما، وقد نص على هذا المعنى جمع من العلماء كالغزالي والقرافي والشوكاني رحمهم الله تعالى.

وهذا يدُلُّك على أن هذا العلم نبراسُ العُقُول، والعاصِم لذهن المجتهد من الخطأ في استنباط الأحكام من المنقول، وهو السَّد المنيع لحفظ ثوابت الدين من دُعاة التَّضْليل، وشُبهات المُلْحدين، ولأجل هذا قال عنه ابن دقيق العيد رحمه الله : «أصول الفقه هو الذي يقضي ولا يقضى عليه»هذه تقدمة سريعة عن علم أصول الفقه.

أما الملكة فقد عرفها العلماء بأنها: الهيئة أو الصِّفة الرَّاسخة في النفس؛ حيث تحصل في النفس هيئة بسبب فعل من الأفعال.

أما الفكرُ فهو: عمل الذِّهن تأملًا وتدبرًا في أي شأن من شؤون الحياة الدُّنيا أو الدِّين، وهو نشاط بشري أداته العَقْل، وثمرته الرَّأي والعِلم والمعرفة.

وتحدث معاليه في محاضرته عن تعريف الملكة الفكرية فقال : فإنه يمكننا أن نعرف الملكة الفكرية باعتبارها لقبا بأنها: القُدْرة على النَّظَر والتدبُّر لطلب المعاني المجْهولة من الأمور المعلومة، أو الوصول إلى الأحْكام، أو النسب بين الأشياء.

وبعد هاتين التقدمتين نستطيع أن نبين العلاقة بين علم أصول الفقه والملكة الفكرية الصحيحة من خلال أثر هذا العلم على هذه الملكة على الوجه المطلوب.

أولًا: العلاقة الوطيدة والصلة الأكيدة بين الدرس الأصولي وتنمية منهجية الملكة الفكرية الصحية:
إنَّ تنمية وتقعيد الوظيفة المنهجيَّة للمَلَكَة الفكريَّة أشمل وظيفة وأعظمها في الدَّرس الأُصُولي، ذلك أن هذه الوظيفة هي المسؤولة عن الأنماط التقعيديَّة، والمحددة لمسارها وبدونها لا يستقيم منهاج التفكير الإسلامي الصَّحيح، وتظهر هذه الوظيفة في: تنهيج الفكر وتسديده، فتولِّد في الباحث والمجتهد والدَّارس ما يُسمَّى بالتفكير العِلمي المستند إلى الدَّليل والبرهان، وكيفية الاستدلال، وترتيب القضايا والموازنة بينها، ويكسب الباحث والمجتهد وينمي فيهما قدرة المَلَكة الفِكريَّة على التَّرْتيب والتَّرْكيب، والتَّحْليل والتَّعْليل، والاستنتاج والتَّقْرير والتَّحْرير، فقواعده وأدلته مساعدة على ذلك، مُفْضِية لذلك، على أَوْثق المَسَالك.

وبذلك يمكن القول إن أوَّل من تحدَّث عن تقعيد الوظيفة المنهجيَّة في أصول الفقه لتنمية المَلَكة الفكريَّة هو الإمام الشافعي رحمه الله ، وهو وإن لم يكن جليًّا في مقولاته، فهو واضح بَيّن في ثنايا عباراته، ودليل ذلك حديثه عن شروط العلم بكتاب الله تعالى، حيث قال رحمه الله : «فالواجب على العالمين أن لا يقولوا إلَّا من حيث علموا، وقد تكلم في العلم من لو أمسك عن بعض ما تكلم فيه منه لكان الإمساك أولى به وأقرب من السَّلامة له إن شاء الله».

ومن هنا أوجب الشَّافعي رحمه الله على العالم أن لا يقول إلَّا من جهة العلم.

وتحدث معاليه عن إبراز أثر الأصولي في تنمية الملكة الفكرية فقال: يقول الغزالي رحمه الله : ” لا مطمع في الإحاطة بالفرع وتقريره والاطلاع على حقيقته إلَّا بعد تمهيد الأصل وإتقانه؛ إذ مثار التخبط في الفروع ينتج عن التخبط في الأصول”.

ويمكننا ذكر أبرز آثار الدَّرْس الأُصُولي في تنمية المَلَكة الفكريَّة على النَّسَق الآتي:
[1]- أَثَر الدَّرْس الأُصُوْلي في تَزْكية الفَهْم وشَحْذ المَلَكَة الفِكْريَّة.
يُعدُّ علم أصول الفقه من أبرز مقوِّمات تنمية وتزكية الفهم في الملكة الفكريَّة، باعتبار أن علم الأصول يعتمد على دقة الفهم، ويتجلَّى ذلك من مباحثه القائِمة على الفهم الثاقب، والنظر الصَّائب في الأدلة ومراتبها وألفاظها، وتوافقها وتعارضها، ومضامينها ومراميها ومقاصدها ومغازيها... إلخ.

كما أن لفظ «الفقه» عند أهل اللُّغة يعني: الفَهْم والفِطْنَة، فالفقه :فهم ما يحتاج إلى إعمال فكر.

[2]-أثر الدَّرْس الأُصُولي في تنمية المَنْهج الاستنباطي والاجتهادي للمَلَكَة الفِكريَّة:
من أبرز ثِمار وآثار الدَّرس الأصولي فتح آفاق الاجتهاد ونبذ الجمود والتقليد الأعمى؛ فعلم أصول الفقه يقوم على إرساء منهج قواعد الاجتهاد وتشييد ضوابط الاستنباط؛ ومن هنا فإنَّ الأصوليين عند تعريفهم لعلم أصول الفقه، نجدهم يصفونه بأنَّه: (علم يبحث فيه عن القواعد التي يقوم عليها استنباط الأحكام الشرعية الفرعية من أدلتها التفصيلية)، من هنا تبرز قيمة هذا العلم في تنمية التَّحْصيل الفِكري المعرفي، «فمنهج البحث وتحصيل المعرفة هو: منهج أصول الفقه وقواعده، فهو المنهج الموصل لحقائق الوحي، وللبحث في كلمات الوحي باعتباره مصدرًا للمعرفة».

[3]- أثر التَّقْعيد المقاصدي للدَّرس الأصولي في تنمية آفاق ونَظْرَة المَلَكة الفكرية:
إن معرفة الدَّرس الأصولي القائم على التقعيد المقاصدي يفتح الآفاق أمام المَلَكَة الفكرية الصحيحة، ويجعلها مُتطلِّعة ومستشرفة للمآلات، ولديها القدرة على استيعاب وهضم الجزئيات للوصول إلى الكليات ونيل الغايات.

فتنشئة الملكة الفكريَّة على الاستدلال الصحيح بمقاصد الشريعة، أو الاعتماد على ما يُعرف بالاجتهاد المقاصدي فإنه حتماً لن يقارب الصَّواب -فضلاً عن أن يكون متميزاً - مالم يكن متمكنًا من المادة الأصولية المتعلقة بهذا الضرب من الاستدلال.

[4]- أَثَر الدَّرْس الأُصُوْلي في تَرْوِيْض المَلَكَة الفِكريَّة الصَّحيحة على مراعاة فِقْه الأولويات وتقديم الأهم على المهم.
فربما نجد أحدهم يذهب وقته وجهده وفكره في دراسة مَسْألة لا تمس إليها الحاجة، فضلاً عن الضَّرورة مع أن هذا العصر يشهد تسارعاً مذهلاً في النَّوازل التي يحتاجها النَّاس؛ بل قد يكون بعضها من قبيل الضروريَّات، وقد رسم الأصوليون مناهج في معرفة الأولويات في ترتيب الأوامر إلى واجبات ومندوبات، والنَّواهي إلى محرمات ومكروهات، كما قسموا مقاصد الشَّريعة بحسب مراتبها إلى الضَّروريَّات، والحاجيات، والتحسينيات، وما أدخلوه من الأبواب الفقهيَّة في كلِّ مرتبة، وما يعد مقصداً أصلياً، أو تابعاً، أو مكملاً.

[5]- أَثَر الدَّرْس الأُصُوْلي في تَقْنِيْن وتَأْطِير المَلَكَة الفكريَّة الصَّحيحة.
يقوم علم الأصول بخط المنهج الذي يمكن اعتباره قانونًا ضابطًا للفكر المحمود الواجب مراعاته، والفكر المذموم واجب الحذر منه عند إعماله في النص الشرعي، وبذلك يمكن اعتبار الوظيفة التقعيدية للدَّرْس الأصولي تقنينًا للفكر، ودون هذا التقنين يتحول الفكر إلى تأملات وخطرات انتقائيَّة قد تكون عبقرية ومشرقة جدًا وذات جدوى في كثير من الأحيان وتصلح للمواعظ والمجادلة الحسنة، ولكنها لا تكون منهجيَّة، فمنهجية الأفكار أو تقنينها بالمنهج تماثل حالة توليد النُّظُم والقوانين من مصادرها.

[6]-أثر الدَّرْس الأُصُوْلي في تَحْقِيق وسطية واعْتدال المَلَكَة الفِكريَّة الصَّحْيحة:
إنَّ المتأمل في الدِّرس الأصولي يدرك أن التَّوسط والاعتدال أحد أهم الخصائص التي تَمَيَّز به هذا العلم.

وتظهر أبرز سمات وسطية واعتدال المنهج الأصولي من خلال عدة محاور أبرزها:
أ- في حمل النصوص بعضها على بعض دَرْءًا للتعارض ودفعًا للغلو والتفريط؛ فيُحمل المُجمل على المفسَّر، والعام على الخاص، والمطلق على المقيد، والمتشابه على المحكم، وبهذه الطريقة تُسَد المَسَالك المفضية إلى التكفير والتفجير لاعتمادها نصوص الوعيد دون النظر إلى نصوص الوعد!
ب-كما تظهر سمات وسطية المنهج الأصولي من خلال تحييد مثارات الانحراف الفكري بواسطة اعتماده على ضبط الأدلة والدِّلالات.

ولا شك أن الانحراف في توظيف الدليل وكيفية الاستدلال من أبرز مثارات الانحراف الفكري؛ ويُعد هذا المدخل هو السبب الرَّئيس في انحراف كثيرٍ من الطوائف والفرق المنتسبة إلى الإسلام.
قال ابن سيرين في الخوارج: «إنَّهم عمدوا إلى آيات الوعيد النَّازلة في المشركين فوضعوها على المسلمين فجاءوا ببدعة القول بالتَّكْفير بالذنب» .

[7]- أَثَر الدَّرْس الأُصُوْلي في تحقيق التَّكَامل بَيْن النَّقْل والعَقْل في بناء وتنمية ملكة التَّصور الفكري:
من أبرز آثار الدَّرس الأُصُولي: تحقيق التوفيق والتكامل بين النقل والعقل في بناء وتنمية ملكة التصوُّر الفكري؛ لأنَّ الحكم على الشَّيء فرع عن تصوره، وهذا لا يعني أنَّهما متعارضان، لأنَّ دليل العقل والشَّرع لا يتعارضان في الأمر ذاته، بل التَّعَارض مرده نظر المجتهد عند إعماله الأدلة، سواء العقليَّة منها أو النقليَّة، يقول الغزاليُّ رحمه الله : «ودليل العقل لا يجوز أن يقابل النطق الصريح من الشَّارع، لأن الأدلة لا تتعارض» .

[8]- أَثَر الدَّرْس الأُصُوْلي في تنمية المَلَكة الفِكريَّة لتحقيق المنهج الاستدلالي.
والمراد بالاستدلال هنا: (معناه العام) وهو الاحتجاج عموماً، أو: إقامة الأدلة السمعية أو العقلية على المسألة، وليس المراد به المعنى الخاص في اصطلاح الأصوليين وهو: «ما ليس بنص ولا إجماع ولا قياس».

وقد صرف الأصوليون جل جهدهم ومدادهم في حصر الأدلة بأنواعها المختلفة، السمعية منها، والعقلية، وبينوا ضوابط الاحتجاج بها، وكيفية استثمار الأحكام منها، وما يصلح للاحتجاج، وما لا يصلح، ورتبوا لهم طريقة الاستدلال بوجوهه المختلفة، ويظهر أثر علم أصول الفقه في تحقيق التميز في الاستدلال الفكري من وجوه ثلاثة:
الأَوَّل: ترتيب الأدلة.
الثَّانِي: ضبط الاستدلال بالنصوص.
الثالث: معرفة العلاقة بين الأدلة الجزئية الخاصة بالمسألة الفقهية التي يستهدفها البحث من أجل التوصل إلى الحكم الصحيح.

[9]-أَثَر الدَّرْس الأُصُوْلي في تَنْمِية المَلَكَة الفِكْريَّة للاسْتِثْمَار فِي العِلْم المُثْمِر المُنْتِج دُوْن ما يُعرف بالتَّرَف الفِكري.

لقد ارتبطت الوظيفة الاستنباطيَّة لعلم أصول الفقه بالعَمَل، بل يمكن القَوْل إنَّ علماء الأصُول جعلوا هذه الوظيفة معيارًا في تنقيح المباحث وردها، ولذلك عندما بدأت تظهر مباحث لا علاقة لها بهذا الغرض من حيث كونها لا تنتج فِقْهًا، ولا ينبني عليها عمل، كالمبَاحث الكلاميَّة واللُّغويَّة، ردها الأصوليون كما فعل الشَّاطبيُّ رحمه الله في الموافقات، حيث قال: «كل مَسْألة مرسومة في أصول الفِقه لا ينبني عليها فروعٌ فقهيَّة، أو آداب شرعيَّة، أو لا تكون عونًا في ذلك، فوضعها في أصول الفقه عارية، والذي يوضح ذلك أن هذا العلم لم يختص بإضافته إلى الفقه إلا لكونه مفيدًا له، ومحققا للاجتهاد فيه، فإذا لم يفد ذلك، فليس بأصل له.

وفي الختام قال معاليه: أسأل الله العظيم أن يحفظ خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود، ويُمتِّع الإسلام والمسلمين بطول بقائه، ويديم في سماء المجد ارتقاءه، ويسبغ عليه لباس الصحة والعافية، ويمدَّ في عمره وصالح أعماله، ويشدَّ أزره بولي عهده الأمين صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز آل سعود  – حفظه الله-.

وحفِظ الله بلادنا من كل سوء ومكروه، وأن يزيدها أمناً وإيمانا، وسلاماً واستقراراً، ويجعلها سخاء رخاءً، ويحفظ عليها عقيدتها وقيادتها وأمنها ورخاءها، وسائر بلاد المسلمين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلَّى الله على نبينا محمَّد وعلى آله وصحبه وسلَّم تسليماً كثيرا.
IMG 4545IMG 4539IMG 4541IMG 4542IMG 4543IMG 4544IMG 4540
قراءة 1881 مرات