أمّ المسلمين اليوم لصلاة الجمعة معالي الشيخ الدكتور صالح بن عبدالله بن حميد إمام وخطيب المسجد الحرام ابتدأها قائلاً: أحمده سبحانه وأشكره على نعم وآلاء تتجدد في الآصال والبكور، وأشهد إلا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة أدخرها ليوم النشور، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله، صاحبُ المقام المحمود، والشفاعةِ العظمى ، والعَلَمِ المنشور، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه، هم في ليالي الدجى النجوم والبدور ، والتابعين ومن تبعهم بإحسان وسلم تسليما كثيرا ما يضيء نجم أفل وما فلك يدور .
أيها المسلمون: من رحمة الله بعبده أن فطره على ما فيه خيره وصلاحه في دينه ودنياه وآخرته وجعل الدين حافظاً لهذه الفطرة وموجها لها ومهذبا، ومن الفطرة عباد الله ما فُطِر عليه الإنسان من لزومه للستر، وحبه له والتمسكِ به، فالإنسان بفطرته يسعى لتغطية جسده حتى أمام نفسه، وأقربِ الأقربين إليه، ويتريث في إظهار أعماله وأقواله حتى يبدو له الوقت المناسب لإظهار ما يرى إظهاره، والإنسان بفطرته يستر المستقبحات من الأعمال والأقوال خوفا وأدباً وخجلاً.
وأضاف معاليه: لقد كرم الله بني آدم بالستر واللباس دون سائر المخلوقات كما كرمهم بالزينة والتزين , وحين وسوس الشيطان لآدم وحواء عليهما السلام وأكلا من الشجرة كانت العقوبة أن بدت لهما سوءاتهما، والإنسان هو الوحيد من بين المخلوقات الذي يستتر ويلبس ويتزين، وحين تنتكس عنده الفطرة يخلع ستر الله عليه، ويدخل في القبائح والفضائح وكشف السوءات والعورات، وقال الشاطبي رحمه الله : إن الستر من المنن العظيمة التي خص الله بها هذه الأمة، ثم قال : إن بني إسرائيل كانوا إذا أذنب أحدهم ليلاً أصبح وعلى بابه معصيته مكتوبة، وكذلك في شأن قرابينهم، فإنهم كانوا إذا قربوها أكلت النار المقبول منها، وتركت غير المقبول، وفي ذلك افتضاح المذنب، ثم قال رحمه الله : ولعله من حكمة تأخير هذه الأمة عن غيرها أن تكون عيوبها مستورة عن الأمم السابقة، فلا يُطَّلعُ عليها كما اطلعوا هم على ذنوب غيرهم ممن سلف.
وأوضح الشيخ صالح بن حميد أن الله قد حكم الستر بالدين والشرع، فبين للإنسان ما يجب عليه ستره من بدنه وأفعاله ومشاعره وبين له ما يكشف وما لا يكشف وبين له حدود الإظهار والإخفاء، والستر يحافظ على طهارة المجتمع ويُبقي على سمته ووقاره، فتحفظ الآذان عن سماع البذئ من الأقوال، وتغض الأبصار عن المستقبح من المناظر، وبالستر تقل فرص الغواية ، وتغيب عوامل الفتنة، وتتلاشى أسباب الإثارة .
وبين معاليه أن الستر- كما يقول أهل العلم – هو تغطيةُ المسلم عيوبه وإخفاءُ هناته وما يقع منه وعدم كشفها للناس مع ما يطلب من الندم والتوبة ، والاستغفار والستر إخفاء وصون وحفظ والستر مقرون بالأدب والحكمة والذوق ورهافة الحس، ومن هنا سميت العورة سوأة لأنه يسوء صاحبَها انكشافهُا، كما يسوء الآخرين خدشُ حيائهم في حال رؤيتهم لها، ومن أعظم علامات الصلاح سترُ العبد على أخيه عيبه وحسنُ ظنه بإخوانه واشتغاله بعيبه عن عيوب الناس،.
وحذر الشيخ بن حميد معاشر المسلمين قائلاً: فإياكم – يا عباد الله – كشف ستر الناس والتجسس والتحسس فإنه مفسد للدين ومفسد لأخلاق الناس، وما كانت الغيبة والنميمة من كبائر الذنوب إلا لأنها كشف لأستار المسلمين ونشر أسرارهم ، وإن في وسائل التواصل ميداناً غير كريم لضعاف النفوس الذين يشيعون الفاحشة في الذين آمنوا، بل بعضهم يوثق معصيته وينشرها وهذا من الغفلة والخذلان، يستره ربه ويكشف ستر الله عليه، والقبائح والفضائح تشيع وتنتشر عبر أدوات التواصل والهواتف المحمولة وشاشات الفضائيات فلا دين عندهم يمنع ولا خلق لديهم يردع ولا حول ولا قوة إلا بالله، سماعون لقالة السوء ونقالون لأخبار الفساد ويتلذذون بالإشاعة ، ويتصدرون بالطعن والتجريح وكشف العيوب والمساوئ.
ويقول ابن الجوزي رحمه الله : اعلم أن الناس إذا أُعجبوا بك فإنما يعجبون بستر الله عليك ، ولو أن الله نشر ما ستر ما نظر أحد إلى أحد ولما استمع أحد إلى أحد، ويقول سفيان بن عبينه: لولا ستر الله عز وجل ما جالسْنا أحداً ،ولا جالسَنا أحد، ووقيل لذي النون رحمه الله : كيف أصبحت ؟ فقال : بين نعمتين عظيمتين لا أدري أيَّها أشكر ؟ أعلى جميل ما نشر أم على قبيح ما ستر . وكان يحيى بن معاذ يناجي ربه ويقول : إلهي ما أكرمك : إن كانت الطاعات فأنت اليوم تبذلها، وتعين عليها ، وغداً تقبلها وتثيب عليها، وإن كانت الذنوب فأنت اليوم تسترها وغداً تغفرها، فنحن من الطاعات بين عطيتك وقبولك، ومن الذنوب بين سترك وغفرانك.
وأوصى معاليه ألا فاتقوا الله رحمكم الله واعلموا أن ستر الأخطاء والخطايا لا يعني تهوين أمرها ولا الدعوةَ إلى اقترافها وتكرارها، بل هو فتحٌ لباب التوبة، وتطهيرٌ للقلب من الإصرار على المعصية، كما أن الستر لا يقتضي ترك الإنكار على مرتكب المعصية فيما بينه وبينه، كما أن المجاهر المتهتك لا يستر عليه، ومن كان ضرره يلحق بالمجتمع أو يزعزع الأمن، ومن يهرب المخدرات ويروجها، ويتعاطى السحر والكهانة، ومن يريد تفريق كلمة المسلمين ويزعز وحدتهم ، ومن كان معلنا لفسقه فكل هؤلاء لا بد من اتخاذ المواقف الحازمة لاتقاء ضررهم، وكشف شرهم، ودفع أذاهم ، والرفع بهم لولاة الأمور، اللهم استر عوراتنا وآمن روعاتنا واحفظنا من بين أيدينا ومن خلفنا وعن أيماننا وعن شمائلنا ونعوذ بك أن نغتال من تحتنا وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة.