أمّ وخطب المصلين بالمسجد الحرام فضيلة الشيخ االاستاذ الدكتور ياسر الدوسري واستهل فضيلته خطبته قائلًا: الحمدُ للهِ الذي جعلَ ذكرَهُ ميسوراً، وأجزلَ الثوابَ للذاكرينَ وجعلَ جزاءَهُم مَوفوراً، {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا}.
وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدَهُ لا شريكَ لهُ، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُهُ ورسولُهُ، أرسلَهُ الله للناسِ بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى اللهِ بإذنِهِ وسِراجاً مُنيراً، صلَّى اللهُ وسلَّمَ وباركَ عليه، وعلى آلِهِ وصحبِهِ ومَنْ تبعهُمْ بإحسانٍ، وأعدَّ لهمْ يومَ القيامةِ أجراً كبيراً ،، أما بعد :
فأوصيكُم - أيها الناسُ – ونفسـي بتقوى اللهِ، فإنَّها هي العُدَّةُ الوافيةُ، والجُنَّةُ الكافيةُ، فاتقوا ربَّكُمْ في السِّرِّ والعلانيةِ، واستعينوا على ذلكَ بذكرِ الملكِ العظيمِ، فإنَّ ذكرَهُ يُورثُ النعيمَ المقيمَ، ويُنجي مِنَ العذابِ الأليمِ.
وقال فضيلته يامعاشر المؤمنين :إِنّ ذِكرَ اللهِ تعالى هو أزكى الأَعمَالِ، وخيرُ الخصالِ، وأحبُّها إلى اللهِ ذي الجلالِ؛ ولقد تضافرتْ نصوصُ الوحيين واستفاضتْ في بيانِ فضلِ الذكرِ، وما يترتبُ عليهِ مِنْ عظيمِ الثوابِ والأجرِ، وما أعِدَّ لأهلِهِ مِنَ العواقبِ الحميدةِ، والدرجاتِ الرفيعةِ، في الدنيا وفي الآخرةِ، قالَ تعالى: {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا } [الأحزاب: 35]. وقد روى الترمذيُّ وغيرُهُ عنْ أبي الدَّرداءِ رضيَ اللهُ عنهُ قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلَّمَ: «أَلاَ أُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرِ أَعْمَالِكُمْ، وَأَزْكَاهَا عِنْدَ مَلِيكِكُمْ، وَأَرْفَعِهَا فِي دَرَجَاتِكُمْ، وَخَيْرٍ لَكُمْ مِنْ إِنْفَاقِ الذَّهَبِ وَالوَرِقِ، وَخَيْرٍ لَكُمْ مِنْ أَنْ تَلْقَوْا عَدُوَّكُمْ فَتَضْرِبُوا أَعْنَاقَهُمْ وَيَضْرِبُوا أَعْنَاقَكُمْ؟» قَالُوا: بَلَى. قَالَ: «ذِكْرُ اللهِ تَعَالَى».
وأضاف فضيلته عباد الله :إِنّ ذِكرَ اللهِ تعالى يُرضِي الرّحمَنَ، وَيَزِيدُ الإِيمَانَ، ويَطرُدُ الشَّيطَانَ، وَيجتثُّ الهمومَ والأحزانَ، وَيَملَأُ النفسَ بِالسُّرُورِ وَالرّضوَانِ، فَيَحيَى القَلبُ مِنْ مَوَاتِهِ، ويحولُ بينَ الإنسانِ وبينِ فواتِهِ، وَيُفِيقُ مِنْ سُبَاتِهِ، فيكونُ سَبَباً لِنَشَاطِ البدن وَقُوَّتِهِ، وَنضارة الوَجهِ وَهَيبَتِهِ، والذكرُ يُوصلُ الذاكرَ إلى المذكورِ، حتى يصبحَ الذاكرُ مذكورًا، قالَ جلَّ ذكرُهُ: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلاَ تَكْفُرُونَ} [البقرة: 152]، ولو لم يكنْ في فضلِ الذكرِ إلا هذهِ وحدهَا لكفَى بهِ فضلاً وشرفاً. قالَ ابنُ القيمِ - رحمه الله - : "والذكرُ مَنْ أُعطيهُ اتصلَ، ومَنْ مُنِعَهُ عُزِلَ".
و أضاف أيها المؤمنون :للذكرِ فوائدُ كثيرةٌ عظيمةٌ، ومنافعُ جليلةٌ جسيمةٌ، يعجزُ العقلُ عنْ إدراكِ نعمائِهَا، وينقطعُ النظرُ دونَ أفقِ سمائِهَا، ويضيقُ المقامُ عنْ إحصائِهَا، والإحاطةِ بهَا أو استقصائِهَا، فالذكرٌ جالبٌ للنِّعمِ المفقودةِ، وحافظٌ للنِّعمِ الموجودةِ.فمنْ منافعِ الذكرِ وفوائدِه: أنَّهُ يُورثُ القلبَ حياةً، فهو لهُ كالقُوتِ، ومَنْ هجرَهُ فهو المخذولُ الممقوتُ، فإذا فقدَهُ العبدُ صارَ بمنـزلةِ الجسمِ الهامِدِ، أو الرمادِ الخامدِ، وصارَ بناؤُهُ كالخرابِ، وإقبالُهُ على مَرامِهِ كالسـرابِ، فقد روى الشيخان عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَثَلُ الَّذِي يَذْكُرُ رَبَّهُ وَالَّذِي لاَ يَذْكُرُ رَبَّهُ، مَثَلُ الحَيِّ وَالمَيِّتِ».
ومنها: أنَّهُ يُورثُ الذاكرَ الاقترابَ، وبدونِهِ يَشعرُ بالوحشةِ والاغترابِ، فعلى قدرِ ذكرِهِ للهِ عزَّ وجلَّ يكونُ قُربُ العبدِ منهُ، كما أنَّ الذكرَ يُورثُ العبدَ المراقبةَ للهِ حتى يبلغَ بذلكَ درجةَ الإحسانِ، فيعبدَ اللهَ كأنَّه يراهُ.
ومنها: أنَّ الذكرَ طمأنينةٌ للقلوبِ، وصلةٌ وثيقةٌ بعلَّامِ الغيوبِ، قال تعالى: {أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد: 28].
ومنها: أنَّهُ سببٌ لتنزّلِ السكينةِ، وغِشيانِ الرحمةِ، وحضورِ الملائكةِ، فمجالسُ الذكرِ مجالسُ الملائكةِ الكرامِ، وميادينُ بلوغِ المرامِ، فقد روى مسلمٌ في صحيحهِ عنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا يَقْعُدُ قَوْمٌ يَذْكُرُونَ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ إِلَّا حَفَّتْهُمُ المَلَائِكَةُ، وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ، وَنَزَلَتْ عَلَيْهِمِ السَّكِينَةُ، وَذَكَرَهُمُ اللهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ».
ومنها: أنَّ اللهَ يُباهي بالذاكرينَ ملائكتَهُ، فقدْ أخرجَ مسلمٌ في صحيحهِ عَنْ مُعَاوِيَةَ رضي اللهُ عنهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ عَلَى حَلْقَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَقَالَ: «مَا أَجْلَسَكُمْ؟» قَالُوا: جَلَسْنَا نَذْكُرُ اللهَ وَنَحْمَدُهُ عَلَى مَا هَدَانَا لِلْإِسْلَامِ، وَمَنَّ بِهِ عَلَيْنَا، قَالَ: «آللهِ مَا أَجْلَسَكُمْ إِلَّا ذَاكَ؟» قَالُوا: وَاللهِ مَا أَجْلَسَنَا إِلَّا ذَاكَ، قَالَ: «أَمَا إِنِّي لَمْ أَسْتَحْلِفْكُمْ تُهْمَةً لَكُمْ، وَلَكِنَّهُ أَتَانِي جِبْرِيلُ فَأَخْبَرَنِي، أَنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ يُبَاهِي بِكُمُ المَلَائِكَةَ».
ومنها: أنَّهُ سببٌ لاشتغالِ اللسانِ عنِ الغيبةِ والنميمةِ، والفحشِ وسَيّءِ الكلامِ، فمَنْ عوَّدَ لسانَهُ ذكرَ اللهِ صانَ لسانَهُ عنِ اللغو والآثامِ.
ومنها: أنَّ الذكرَ مكفِّرٌ للذنوبِ والسيئاتِ، فقدْ ثبتَ في الصحيحينِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ، فِي يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ، حُطَّتْ خَطَايَاهُ، وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ البَحْرِ».والأحاديثُ في هذا المعنى كثيرةٌ مستفيضةٌ.
ومنها: أنَّ دوامَ ذكرِ اللهِ يُوجبُ السعادةَ للعبدِ في أوانِهِ ومآلِهِ، فلا يشقى في معاشهِ ولا في معادِهِ، قالَ اللهُ تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} [طه: 124، 126].
ومنها: أنَّ ذكرَ اللهِ في الخلوةِ مع انحدارِ الدمعةِ، سببٌ ليكونَ العبدُ يومَ القيامةِ في منازلِ الرفعةِ، فيكونُ في ظلِ اللهِ يومَ القيامةِ مِنَ السبعةِ، ففي الصحيحينِ منْ حديثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضيَ اللهُ عنهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنَّهُ قَالَ: «سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللهُ فِي ظِلِّهِ، يَوْمَ لاَ ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ»، وذكر منهم: «وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ».فالكيّسُ - يا عباد الله- مَنْ دانَ نفسَهُ وعمِلَ لما بعدَ الموتِ، والعاجزُ مَنْ أتبعَ نفسَهُ هواهَا، وتمنَّى على اللهِ الأماني.
وقال فضيلته عباد الله : هذا وصلوا وسلموا على إمامِ الذاكرينَ، وقدوةِ الموحدينَ؛ كما أمركُم اللهُ بذلكَ في كتابِهِ المبين، فقالَ: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً}.