خطب وأمّ المصلين لصلاة الجمعة في المسجد الحرام إمام وخطيب المسجد الحرام فضيلة الشيخ الدكتور ياسر بن راشد الدوسري، واستهل خطبته قائلًا: الحمدُ للهِ الذي سهَّلَ بفضلِهِ سُبلَ الخيرِ ويسَّرَ، وبلَّغَ عبادَهُ سبيلَ بيتِهِ المُطهرِ، فقضَى الحاجُّ تفثَهُ، ووفَّى مَا نَذرْ، وأمَّلَ مِنْ ربِّهِ مغفرةَ مَا سَلفَ وسطَّرَ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا الله، الَّذِي خَلَقَ وشَرَعَ ودبَّر، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُهُ ورسولُهُ صلَّى اللهُ عليهِ وعلَى آلِهِ وصَحْبِهِ خيرِ البشرِ، ومَنْ تبعهُمْ بإحسانٍ إلى يومِ المَحشرِ، أمَّا بعد:
فأُوصيكُم أيَّها الناسُ، ونفسي بتقوَى اللهِ، فإنَّ تقواهُ أفضلُ زادٍ، وأحسنُ عاقبةٍ ليومِ المَعادِ، فاتَّقوا اللهَ في كلِّ حينٍ، وتذكَّرُوا قولَ الحقِّ في كتابِهِ المبينِ: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ المُتَّقِينَ}. معاشرَ المسلمين: لقدِ انقضَى موسمٌ مِنْ أشرفِ مواسمِ أهلِ الإسلامِ، وانتهتْ أيامُ الحجِّ وشعائرِهِ العظامِ، وعاشَ الحجاجُ معَهَا أفضلَ الأيامِ، فوقفُوا في المشاعرِ بخضوعٍ واستسلامٍ، ورفعُوا الأكفَّ سائلينَ ربَّ الأنامِ، وتَطَهَّروا مِنَ الذنوبِ والآثامِ، فَهَنِيئًا لهُمْ علَى التمامِ، وهَنِيئًا لهُمْ مَا آتاهُمُ اللهُ مِنَ الفضلِ والإنعامِ، {قُل بِفَضلِ اللَّهِ وَبِرَحمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَليَفرَحُوا هُوَ خَيرٌ مّمَّا يَجمَعُونَ}. فلتشكُرُوا للهِ نعمَهُ وإمدادَهُ، فالشكرُ لهُ مؤذنٌ بالزيادةِ، وبذلكَ تحققُونَ مقصَداً مِنْ مقاصدِ الحجِّ والعبادةِ، قالَ تعالَى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ}.
حجّاجَ بيتِ اللهِ الحرامِ، ظُنُّوا بربِّكُم كلَّ جميلٍ، وأمِّلُوا كلَّ خيرٍ جَزيلٍ، وقوُّوا رجاءَكُم باللهِ في قَبولِ حجِّكُم، ومَحوِ مَا سلفَ مِنْ ذنوبِكُم، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي». متفق عليه. واعلمُوا - رحِمَكُم اللهُ - أن من حَجَّ للهِ مُخْلِصاً، وَلنبيِّهِ مُتَّبِعًا، وَسَلِمَ مِنَ الرَّفثِ والفُسُوقِ والجِدالِ، فقدْ رجعَ مِنْ ذُنُوبِهِ خَالِيًا، وَمِنْ خطايَاهُ خَاوِيًا، فعنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: «مَنْ حَجَّ للَّهِ فَلَمْ يَرْفُثْ، وَلَمْ يَفْسُقْ، رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ». رواهُ البخاريُّ.
فهَا أنتُم – يا حجاجَ بيتِ اللهِ - قدِ استفتَحتُمْ حياتَكُم بصفحةٍ بيضاء، ورجعتُم بعدَ حَجِّكُم بثيابِ الطُّهرِ والنقَاءِ، فأَرُوا اللهَ مِنْ أنفسِكُم خَيراً، وَاعزِمُوا على المُحافظةِ على الطاعاتِ مَا بَقِيتُم، والبعدِ عنِ المعاصِي مَا حَيِيتُم؛ وحافِظُوا على مَا اكتسبْتُم وَجنيْتُم، وإياكُم مِنْ هَدْمِ مَا شَيَّدْتُم وبَنيْتُم، {وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا}. وإنَّ أمارةَ الحجِّ المبرورِ ومنارةَ قَبولِهِ، إيقاعُ الحسنةِ بعدَ الحسنةِ، والمداومةُ على ذلكَ، قالَ تعالَى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ}، وهكذَا حالُ المؤمنِ كُلَّمَا فَرَغَ مِنْ عبادةٍ أعقبَها بعبادةٍ أخرَى، فللهِ دَرُّ أقوَامٍ أعيادُهُم قَبُولُ الأعمالِ، ومُرَادُهُم أشرفُ الآمالِ، وأحوالُهُم تَجْرِي على كَمَالٍ.
أيها المسلمون: إنَّ الطاعاتِ والعباداتِ ليستْ مرتبطةً بفريضةٍ دونَ غيرِهَا، أو موسمٍ دونَ غيرِهِ، بلْ إنَّ العُمرَ كلَّهُ محلٌّ للخيراتِ، ومغنمٌ للحسناتِ، فالمؤمنُ ليسَ لهُ مُنتَهى مِنْ صالحِ العمَلِ إلا بحلولِ الأجَلِ: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ}، وعَنْ عَلْقَمَةَ قَالَ: سَأَلْتُ أُمَّ المُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ، قُلْتُ: هَلْ كَانَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ يَخُصُّ شَيْئًا مِنَ الأَيَّامِ؟ قَالَتْ: «لاَ، كَانَ عَمَلُهُ دِيمَةً». متفقٌ عليهِ.
أيها المؤمنون: إنَّ مَنْ لبَّى في الحجِّ للرحمنِ فليلبِي بالطاعاتِ في كلِّ مكانٍ وزمانٍ؛ ومَنِ امتنعَ في حَجِّهِ عنْ محظوراتِ الإحرامِ، فليعلمْ أنَّ هناكَ محظوراتٍ على الدوامِ، فليحذرْ مِنْ خطواتِ الشيطانِ، ولا يقتربْ مِنْ حِمَى الرَّحمنِ، قالَ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: «أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، أَلَا وَإِنَّ حِمَى اللهِ مَحَارِمُهُ». متفقٌ عليه.
عبادَ الله: بَارَكَ اللهُ لي ولكُم في القرآنِ والسنةِ، ونفعَنِي وإياكُم بِمَا فيهِما مِنَ الآياتِ والحكمةِ، أَقُولُ مَا سمعتُم، وأستَغفِرُ اللَهَ لي ولكُمْ ولسائرِ المسلمينَ منْ كلِّ ذنبٍ وخطيئةٍ، فاستَغْفِرُوهُ، إنَّهُ هو الغفورُ الرحيمُ.
وقال في خطبته الثانية: الحمدُ للهِ يُجزلُ العطاءَ لعبادِهِ المتقينَ، المُتفضِّلِ عليهِم بالنعماءِ في كلِّ حينٍ، أحمدُهُ حمْدَ الشاكرينَ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُهُ ورسولُهُ إمامُ المتقينَ، صلَّى اللهُ وسلَّمَ عليهِ وعلى آلِهِ وصحبِهِ أجمعينَ، أما بعد:
ضيوفَ الرحمن: إنَّ مِنْ توفيقِ اللهِ تعالَى أنْ يعودَ الحاجُّ بعدَ الحجِّ بالتوحيدِ الخالصِ، وقدْ صَلَحَ قَلبُهُ، وازدادَ إيمانُهُ، واستقامَ حالُهُ، وحسُنُ خُلُقه، وقَوِيَ يقينُهُ، وزادَ وَرَعُه، سُئِل الحسنُ البصريُّ رحمَهُ اللهُ تعالَى: ما الحجُّ المبرورُ؟ قالَ: أنْ تعودَ زاهدًا في الدنيا، راغبًا في الآخرةِ.
فيَا مَنْ تقلَّبتُم في أنواعِ العبادةِ، الزَموا طريقَ الاستقامةِ؛ فلستمْ بدارِ إقامةٍ - واعلمُوا - أنَّهُ بهذا العُمُرِ اليسيرِ يُشترَى الخلودُ في الجِنانِ، والبقاءُ الذي لا ينقطعُ بوعدِ الرَّحمنِ، ومَنْ فرَّطَ في حياتهِ وَقَعَ في الخُسرانِ، فعلى العاقلِ أن يعرفَ قدْرَ عُمرِهِ، وأنْ ينظرَ لنفسهِ في أمرِهِ، فيغتنمَ مَا يفوتُ استدراكُهُ، فربَّما حَصَلَ بتضييعِهِ هلاكُهُ.
حجاجَ بيتِ اللهِ الحرامِ: تقبَّلَ اللهُ حجَّكُم وسعيَكُم، وأعادَ اللهُ علينَا وعليكُم هذهِ المواسمَ المباركةَ أعواماً عديدةً وأزمنةً مديدةً، وجزى اللهُ ولاةَ أَمرِنَا في هذهِ الدولةِ المباركةِ على جهودِهِم العظيمةِ المعهودةِ، وأعمالِهِم الجليلةِ المشهودةِ؛ والتي أثمرتْ بتوفيقِ اللهِ نجاحاً عظيماً لموسمِ الحجِّ في هذا العامِ وفي كلِّ عامٍ، وإنَّ خدمةَ الحرمينِ الشريفينِ وقاصديهِمَا مِنَ الحُجاجِ والمعتمرينَ والزوّارِ ممَّا امتازتْ بهِ المملكةُ العربيةُ السعوديةُ منذُ تأسيسِهَا، فجزاهُم اللهُ عنَّا وعنكُم وعنِ الإسلامِ والمسلمينَ مِنَ الأجرِ أعظمهُ ومِنَ الثوابِ أجزلهُ، وجعلَ ذلكَ في ميزانِ حسناتِهِم.
عبادَ الله: هذا وصلُّوا وسلِّمُوا على خيرِ البريةِ، وخيرِ البشريةِ محمدِ بنِ عبدِ اللهِ، فقدْ أمركُم اللهُ بذلكَ في كتابِهِ فقالَ: {إِنَّ اللهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}.
فاللهمَّ صلِّ وسلِّم وبارِكْ على الرسولِ الأمينِ، وعلى آلِهِ الطيبينَ الطاهرينَ، وعلى أزواجِهِ أمهاتِ المؤمنينَ، وارضَ اللهمَّ عنِ الخلفاءِ الأربعةِ الراشدينَ، وعنِ الصحابةِ أجمعين، والتابعين، ومَنْ تبعَهُم بإحسانٍ إلى يومِ الدِّينِ، وعنَّا معهُم بعفوِكَ وجُودِكَ وإحسانِكَ يا أكرمَ الأكرمينَ.
اللهمَّ أعزَّ الإسلامَ والمسلمينَ، وانصرْ عِبادَكَ الموحدينَ، واحمِ حَوزةَ الدِّينِ، واجعلْ هذا البلدَ آمناً مطمئناً رخاءً وسائرَ بلادِ المسلمينَ، يا ربَّ العالمين. اللهمَّ تقبَّلْ مِنَ الحجاجِ حجَّهُم وسعيهُم، واجعلْ حجَّهُم مبروراً، وسعيَهُم مشكوراً، وذنبَهُم مغفوراً. اللهمَّ اجعلْ سفرَهُم سعيداً، وعودَهُم إلى بلادِهِم حميداً، واجعلْ دَربَهُم دربَ السلامةِ والأمانِ. اللهمَّ وفِّقْ إمامَنَا ووليَّ أمرِنَا خادمَ الحرمين الشريفين، ووليَّ عهدِهِ الأمين لكلِّ مَاتحبُّ وترضَى، وأجزلْ لهم الأجرَ والمثوبَةَ على كلِّ مَا يبذلونَهُ للحرمين الشريفين، واجزِ جميعَ العاملينَ في خدمةِ ضيوفِ الرحمنِ خيرَ الجزاءِ. اللهمَّ انصرْ رجالَ أمنِنَا وجنودَنا على ثغورِنَا، وكنْ لهمْ عوناً ونصيراً، ومُؤيداً وظهيراً. اللهمَّ وفِّقْ ولاةَ أمورِ المسلمينَ لِـهُداكَ، واجعلْ عملَهُم في رِضاكَ. اللهمَّ فرِّجْ همَّ المهمومِينَ، ونفِّسْ كَربَ المكرُوبِينَ، واقضِ الدَّينَ عنِ المَدِينِينَ، واشفِ مَرضانَا ومرضَى المسلمِينَ، وارحمِ اللهمَّ موتانَا وموتَى المسلمِينَ، وانصرِ المُستضعفِينَ مِنَ المسلمِينَ في كلِّ مكانٍ، وفي فلسطينَ، واجعلْ لهُم مِنْ كلِّ هَمٍّ فرجاً، ومِنْ كلِّ ضيقٍ مَخرجاً، ومنْ كلِّ بلاءٍ عافيةً. ربَّنَا تقبلْ مِنَّا إنكَ أنتَ السميعُ العليمُ، واغفرْ لنَا إنكَ أنتَ الغفورُ الرحيمُ، وتُبْ علينَا إنَّكَ أنتَ التوابُ الرحيمُ، سبحانَ ربِّكَ ربِّ العزةِ عمَّا يصفُونَ، وسلامٌ على المرسلِينَ، والحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ.