أم إمام وخطيب المسجد النبوي فضيلة الدكتور عبدالمحسن بن محمد القاسم المصلين بالمسجد النبوي واستهل فضيلته خطبته: اتقوا الله عباد الله حق التقوى، وراقبوه في السرّ والنجوى، فلقد بعث الله رسله ليخرجوا الناس من الظلمات إلى النور، فمن أجابهم خرج إلى نور الهداية، ومن لم يحبهم بقي في ظلمة الجهل والغفلة عن نفسه وكمالها؛ والغفلة عن الدين والدار الآخرة أصل الشرور، ومن أعظم أمراض القلوب، ويحرم بها العبد خير الدنيا والآخرة، ولذّة النعيم فيهما، ولا يدخل النقص على العبد إلّا من بابها.
وأضاف فضيلته: وقد أخذ سبحانه على بني آدم الميثاق بأنّه ربّهم ومعبودهم وحده لئلًا يعتذروا بالغفلة، وأنزل تعالى القرآن قطعًا لحجّتها، ونهى الله رسوله أن يكون من الغافلين فقال: ولا تكن من الغافلين" وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتعوّذ منها بقوله:" اللهم إنّي أعوذ بك من العجز والكسل، والبخل والهرم، والقسوة والغفلة"(رواه ابن حبّان). وأمر الله رسوله بإنذار الناس قبل أن يتحسّروا على غفلتهم، وأخبر سبحانه باقتراب حساب الناس ليستيقظوا من غفلتهم "اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون" وذمّ من يعلمون ظاهرًا من الدنيا وهم غافلون عن الآخرة؛ وكلّ أمّة انقطع عنها الإنذار وترك فيها التذكير تقع في الغفلة "لتنذر قومًا ما أنذر آباؤهم فهم غافلون" وأخبر الله أنّ كثيرًا من الناس عن آياته غافلون.
وتابع فضيلته: ومن أسباب الغفلة حبّ الدنيا والركون إليها، وتقديم محابّها على الآخرة؛ قال بعض الحكماء" من نظر إلى الدنيا بغير العبرة؛ انطمس من بصر قلبه بقدر تلك الغفلة"، والإعراض عن تلاوة القرآن وذكر الله يوجب الغفلة ومت القلب، قال النبي صلى الله عليه وسلم "مثل الذي يذكر ربّه والذي لا يذكر ربّه، مثل الحي والميت" (متفق عليه)، ومآل ترك الجمعات تهاونًا وكسلًا يوجب الغفلة، وصحبة الغافلين سبيل لها، وقد نهى سبحانه عن صحبتهم، وعن طاعتهم والقبول منهم (ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا). ومن الاغترار أن يسيء العبد فيرى إحسانًا؛ فيظنّ أنّ قد سومح، وربما رأى سلامة بدنه وماله؛ فظنّ أن لا عقوبة عليه، وما علم أن غفلته عمّا عوقب به من أعظم العقوبة، والسلامة من الغفلة أمرٌ عزيز؛ فقد تلحق العبي التقيّ، ولكنّه سرعان ما ينتبه ويتذكر فيتوب، قال تعالى" إنّ الذين اتقوا إذا مسّهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون".
وأشار فضيلته: واليقظة من الغفلة أول مفاتيح الخير؛ وتتحقق بامتثال أوامر الله ورسوله، ومما يوقظ منها تلاوة كتاب الله العظيم؛ (هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين)، والمحافظة على الصلوات الخمس مما ينجي من الغفلة، قال النبي صلى الله عليه وسلم:" من حافظ على هؤلاء الصلوات المكتوبات؛ لم يكتب من الغافلين" (وراه ابن خزيمة)، وقيام الليل ولو بآيات قليلة زكاةٌ من الغفلة، قال النبي صلى الله عليه وسلم:" من قام بعشر آيات لم يكتب من الغافلين" (رواه أبو داود)، وحِلق القرآن والسنة ومجالس العلم تزيل الغفلة عن القلوب؛ قال ابن القيّم رحمه الله:" مجالس الذكر مجالس الملائكة، ومجالس اللغو والغفلة مجالس الشياطين، فلتخيّر العبد أعجبهما إليه، وأولاهما به؛ فهو مع أهله في الدنيا والآخرة"، والغفلة حجاب بين العبد وربّه، والذكر يزيل ذلك الغطاء، ويطرد الشيطان. قال تعالى( واذكر ربك في نفسك تضرعًا وخيفة ودون الجهر من القول بالغدو والآصال ولا تكن من الغافلين)؛ وأداء العبادات في الأوقات التي يغفل عنها الناس مما يُنجي من الغفلة، والتوبة سبب طهارة القلب، والسلامة من الغفلة قال النبي صلى الله عليه وسلم:" إنّ العبد إذا أخطأ خطيئة؛ نكتت في قلبه نكتة- أي نقطة- سوداء، فإذا هو نزع واستغفر وتاب؛ سقل قلبه" أي محيت عنه تلك النقطة (رواه الترمذي)؛ والموت موعظة صامتة، والإكثار من ذكره صلاح للقلب، وسلامة من الغفلة.
وبيّن فضيلته: والشيطان يترقّب غفلة العبد ولا يزال به حتّى يغطي القلب ويعميه، فيكون قلبه الغافل مأوى للشيطان، ومن غفل عن الله؛ عوقب بطمس البصيرة، فيصدّ عن معرفة الله وآياته، وتمييز الحق من الباطل؛ وإذا استحكمت الغفلة؛ فصاحبها لا يفقه ولا يبصر ولا يسمع ولا يعقل، ( لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أظل أولئك هم الغافلون)، وهي سبب انتقام الله من العبد وهلاكه، قال عز وجل: ( فانتقمنا منهم فأغرقناهم في اليمّ بأنّهم كذّبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين). وتوعّد الله الغافلين بالنار، ويوم القيامة يكشف غطاء الغشاوة عن قلوبهم، ويبصرون ما كانوا ينكرون (لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد) ويقرّون بغفلتهم ويندمون عليها، (واقترب الوعد الحق فإذا هي شاخصة أبصار الذي كفروا يا ولينا قد كنّا في غفلة من هذا) وإذا ولجوا النار أعادوا كرّة الندامة على غفلتهم (يا ويلنا قد كنّا في غفلة من هذا بل كنّا ظالمين).
واختتم فضيلته خطبته قائلًا: فالغافل ليس بمغفول عنّه؛ قال تعالى( وما ربك بغافل عمّا تعملون) وجماع الشرّ الغفلة والشهوة؛ فالغفلة عن الله والدار الآخرة تسدّ باب الخير، والشهوة تفتح باب الشرّ، وكلما كان القلب أبعد من الله كانت الآفات إليه أسرع، وكلّما قرب من الله بعدت عنه الآفات؛ والبعد من الله مراتب، بعضها أشدّ من بعض، ولا خلاص من بلوى المعصية إلا بالتخلّص من الغفلة. ودخول الشيطان على العبد من الغفلة والشهوة والغضب، وصدأ القلب بالغفلة والذنب، وجلاؤه بالاستغفار والذكر، ومن علامة صحّة القلب: أنّه لا يزال يحدو بصاحبه، حتى ينيب إلى الله، ويخبت إليه، ويتعلق به. ومن غفل عن نفسه؛ تصرّمت أوقاته، واشتدّت عليه حسراته؛ فاستدركوا ما فات بما بقى ومن أصلح ما بقي غفر له ما مضى، والرشيد من وقف مع نفسه وقفة حساب وعتاب، ويصحح مسيرتها، ويتدارك زلّتها، ويتصفّح في ليله ما صدر من أفعال نهاره، قال ابن حبّان رحمه الله" أفضل ذوي العقول منزلة: أدومهم لنفسه محاسبة"