خطب وأم المصلين في المسجد النبوي فضيلة الشيخ الدكتور خالد بن سليمان المهنا إمام وخطيب المسجد النبوي الشريف.
وبعد أن حمد الله تعالى بدأ خطبته بقوله: أيها الناس: لقاء الله تعالى حتم لا مفر منه، وهو واقع بالجن والإنس لا محيد لهم عنه، وذلك يوم الحشر للجزاء على أعمالهم، فملاق ربه فائز قد قرت عينه بمحبوبه، فذاك لقاء الفوز والكرامة، وملاقٍ خاسرٌ فذاك لقاء خزي وندامة، قال الله تعالى: (يَٰٓأَيُّهَا ٱلۡإِنسَٰنُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدۡحٗا فَمُلَٰقِيهِ)؛ وقال عليه الصلاة والسلام (وستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم).
وأضاف: اليقين بلقاء الله تعالى ودوام استحضاره من أعظم ما يعين العبد على الوفاء بعهده مع ربه والثبات على دينه، والصبر على طاعته، ورجاء حسن ثوابه، والخوف من أليم عقابه، وهو عدة العبد في مواجهة الشدائد والكرب، وعواصف الفتن والنوب،
وحُقَّ لكل عبد عمل للقاء ربه واستعد لذلك اليوم أن يشتاق إلى لقياه جل ثناؤه، فإنما يلاقي العبد مولاه الذي آثر حبه على جميع محابه، وقدم مرضاته على كل رغائبه.
وبيّن فضيلته: الشوق إلى الله ولقائه نسيمٌ يهب على القلب يروّح عنه وهج الدنيا، ويخفف عنه آلامها، ومن أنس بالله واشتاق إلى لقائه فقد فاز بأعظم لذة يمكن لبشر الوصول إليها في هذه الدار؛ والشوق إلى لقاء الله حادٍ يحدو العبد إلى التقرب إلى مولاه، بل هو ثمرةحسن العلاقة مع الله، فإنما يحب لقاء الله ويشتاق إليه من عمّر قلبه بتوحيد الله ومحبته ورجائه وخوفه، وأكثر من ذكره، وعمل عملًا صالحًا خالصًا لمولاه، لا يرجو فيه أحدًا سواه.
وأكمل: الشوق إلى الله ومحبة لقائه ياعباد الله ثوابٌ عظيم معجلٌ لأهل ولاية الله، يواسيهم به، ويذيقهم من حلاوة لقائه قبل الوفود عليه، ويستقبلهم به قبل قدومهم إليه، قال عليه الصلاة والسلام: (المؤمن إذا حضره الموت بشر بكرامة الله ورضوانه، فليس شيء أحب إليه مما أمامه، فأحب لقاء الله فأحب الله لقاءه)؛ وفي هذا الحديث بشارةٌ عظيمة لأهل الإيمان، وتهوين لكربات الموت، وتسلية للمسلمين في فقد أصفيائهم.
وأوضح فضيلته: هذا إمام المتقين وقدوة السالكين قد ملأ قلبه الشوق إلى لقاء ربه فاختاره على الخلد في الدنيا مع مفاتيح خزائنها ثم الجنة بعد ذلك، فعن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن أبي مويهبة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم،قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم من جوف الليل، فقال: (يا أبا مويهبة إني أُمرت أن أستغفر لأهل البقيع فانطلق معي) فانطلقت معه، فلما وقف بين أظهرهم قال (السلام عليكم يا أهل المقابر، ليهن لكم ما أصبحتم فيه مما أصبح فيه الناس، أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم يتبعُ آخَرُها أولَها، الآخرة شر من الأولى)، ثم أقبل علي، فقال: (يا أبا مويهبة، إني قد أوتيتُ مفاتيح خزائن الدنيا والخلد فيها ثم الجنة، فخيرتُ بين ذلك ولقاء ربي والجنة) قال: قلتُ: بأبي أنت وأمي فخذ مفاتيح خزائن الدنيا والخلد فيها ثم الجنة، قال: (لا والله يا أبا مويهبة، لقداخترتُ لقاء ربي والجنة)، ثم استغفر لأهل البقيع ثم انصرف، فبُدئ برسول الله وجعه الذي قبض فيه، وفي لفظ أحمد في مسنده: فما لبث بعد ذلك إلا سبعاً أوثمانياً حتى قبض؛ وفي هذا الخبر دلالةٌ بينةٌ على أن نبينا محمد صلى الله عليه كان أشد الخلق حبًا لله، فإنه خُصّ بهذا التخيير الذي منتهاه إلى لقاء الله والجنة، فاختار التعجيل بلقاء مولاه ومحبوبه، وهذه حقيقة الحنيفية ملة إبراهيم عليه السلام؛ وكان آخر ما قال عليه الصلاة والسلام في هذه الدنيا (اللهم اغفر لي وارحمني وألحقني بالرفيق الأعلى).