أمّ المصلين لصلاة الجمعة بالمسجد النبوي فضيلة الشيخ الدكتور عبدالباري بن عواض الثبيتي واستهل خطبته قائلًا: أوصيكم ونفسي بتقوى الله فهي الزاد يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، إن قول الله تعالى " إنّ الله بصير بالعباد" يحمل في طياته معاني عميقة وأثرًا بليغًا على النفس والحياة، الكون بأسره والعباد جميعًا يقرؤون" إنّ الله بصير بالعباد" فتغمر قلوبهم السكينة، إذ يوقنون أن المدبر الحكيم، مالك السماوات والأرض هو الرحمن الرحيم الذي بلطفه يحيط عباده، لقد هيأ الله هذا الكون بديع الصنع للإنسان فسخّر له الليل لسكناه والنهار لسعيه والشمس والقمر لمعاشه، والشجر والدواب في خدمته، وجعل الفلك تسبح في البحر، والماء ينهمر ليحي الأرض، والهواء يعبر رئتيه بيسر، بسط له الأرض تحت قدميه، وأجرى عليها الأنهار وشقّ الوديان، وأنبت من باطنها كل صنوف النبات لتغدق عليه بخيراتها، ليأكل من ثمارها وينظر الله في أفعاله، كيف يعمل وكيف يشكر تلك النعم التي لا تحصى.
وأضاف فضيلته: يغرس قوله تعالى " إن الله بصير بالعباد" في قلب المسلم الرضا والتسليم بأنّ رزقه مضمون، وأن الله لا يخفى عليه حال عبده، ولا فقره، ولا عوزه، ولا ما يحمله من هموم المستقبل، فالله برحمته وعمله، يكفل لعباده الأرزاق فيورث في النفس طمأنينة في النفس طمأنينة وفي القلب سعادة. تأصل هذا المعنى في قلب المسلم واستشعاره بأن الله بصير به ومطلع على أحواله مستحضرًا معيه الله وقربه منه يورثه السكينة وعدم القلق، إذ يعلم أن الله قريب بسمعه ويراه كما قال سبحانه لموسى وهارون" إنني معكما أسمع وأرى" هذا الإدراك العميق يعزز التوكل على الله، ويشحذ الهمة في مواجهة التحديات وتحمل الأزمات بثقة وإيمان. وقف موسى عليه السلام أمام البحر، متبعًا بفرعون وجنوده، فكان الموقف عظيمًا، وكأن كل الأبواب قد أغلقت، فنطق بكلمات المؤمن الواثق، الذي يوقن أن الله معه، قائلًا: إن معي ربي سيهدين.." إيمان لا يتزعزع ولا يهتز أمام أي تحد. وهذا حال رسول الله صلى الله عليه وسلم، عندما هاجر إلى المدينة، وتبعه المشركون يريدون القضاء عليه في ظلمة الغار، طمأن صاحبه أبا بكر الصديق بكلمات الإيمان قائلًا: " لا تحزن إن الله معنا"، " ما ظنّك باثنين الله ثالثهما" إنّها نفس الثقة، نفس اليقين بأن الله ناصر عبده ولا يغلب من كان الله معه.
وتابع فضيلته: وحين تلقي الدنيا بأثقالها على قلب المسلم وتتزاحم لديه الوساوس وتعظم الهموم فإن دواء ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم" أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنّه يراك" استحضارها هذا المعنى العظيم يضفي على الصلاة لذة خاصة، ويمنح المناجاة أنسًا عميقًا، فتهيأ القلوب للإقبال على الله، متدبرة آياته غارقة في تأمل ملكوته، شاعرة بجلال الوقوف بين يديه، إنّ الصلاة التي يخرج منها المصلي وقد أشرقت روحه، وانقشعت غيوم الهم عن قلبه. " إنّ الله بصير بالعباد" قرآن يتلى يصنع العجائب يزرع نفس المسلم الحياء من الله، فيستحي أن يراه حيث نهاه أو أن يفقده حيث أمره يخشى أن تقوده أنامله إلى مواقع محرمة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، أو أن تسير قدماه إلى أماكن لا يرضاها خالقه، وكذلك تستحي أذنه أن تستمع إلى اللغو أو الفحش أو الغيبة والنميمة، إدراكًا منه بأن الله مطلع على كل ما يفعل ويسمع، فيجعل من مراقبة الله سياجًا يحميه من الوقوع في المعاصي. تعزز هذه الآية في نفس المسلم فضيلة العفة التي تلهمه الوقاية من الشهوات والنزوات فإن تهادى إلى سمعه صوت الفتنة تقول هيت لك تذكر أن الله بصير به فقال معاذ الله، فلا تسل عن هذا القلب وقوته ورباطة جأشه وثباته وسط المحن قال ابن القيم رحمه الله في هذا اللون من القلوب ( وقلبُ قد امتلأ من جلال الله عز وجل وعظمته ومحبته ومراقبته والحياء منه فأي شيطان يجترئ على هذا القلب).
وأشار فضيلته بأنّ يقرأ المظلوم " إنّ الله بصير بالعباد" فينساب إلى قلبه برد اليقين وسكينة الأمل مستروحًا أن حقه لن يضيع، إذ يدرك أن عين الله لا تغفل، وأن عدله قائم وسيقتص من الظالم في الوقت الذي يقدره سبحانه بحكمته، يتيقن المظلوم أن الظلم مهما اشتد واستطال فله أجل محتوم، وأن حقه مصون، وفي صبره على الابتلاء كنز من الأجر لا يقدره إلا الله وأن منقلب الظالم وعاقبته وخيمة. قال تعالى:" وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون". وإذا استشعر المسلم أن الله يراه في كل أحواله كان أسرع ملجأ يلجأ إليه وأقرب مسؤول يرفع إليه نجواه وأقرب حفيظ يبث نحوه شكواه والدعاء أول باب يطرق لمواجهة صعوبات الحياة قال تعالى" وإذا سألك عبادي عنّي فإنّي قريب أجيب دعوة الداعي إذا دعان".
واختتم فضيلته خطبته قائلًا: إنّ معنى " إن الله بصير بالعباد" يشكل قاعدة راسخة تدعم تنمية المجتمع وبناء الوطن ورفعة الأمن، وتحسين العمل وترتقي بحياة الأفراد، فعندما يستحضر الموظف والمسؤول على حد سواء أن الله يراه ويطلع على أعماله يتولد في نفسه دافع قوي للإخلاص والإتقان، يصبح العمل ليس مجرد واجب دنيوي، بل عبادة يبتغي بها رضا الله، فيظهر ذلك على أدائه ونزاهته وأمانته وتغليب المصلحة العامة ومقاومة الفساد، فتتقدم المؤسسات ويزدهر المجتمع وتتحقق جودة الحياة في كل تفاصيلها. وحين يستقر في سويداء القلب معنى أن الله بصير بالعباد، وأنه يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، يرتقي سلوك المجتمع وتتهذب أخلاقه وتصبح مراقبة الله هي المعيار الأعلى في البيع والشراء، وأداء حقوق الآخرين ويلتزم التاجر بالأمانة، فلا يغش في سلعته، ولا يستغل حاجة الناس، يفي بالعقود، ويتجنب الظلم والاحتيال.