خطب وأمّ المصلين لصلاة الجمعة فضيلة إمام وخطيب المسجد الحرام الشيخ الدكتور ماهر المعيقلي
الحمد لله.. الْحمد للهِ عظيم الشأن، واسع الفضل والإحسان، جعلنا خير أمَّة، وهدانا لطريق الجماعة والسنة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الحمد كله، وبيده الخير كله، وإليه يرجع الأمر كله، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله، العارف بالله حقاً، والمتوكل عليه صدقاً، والمتذلل له تعبداً ورقاً، صلى الله عليه، وعلى آله وأزواجه الأطهار، وصحابته الأخيار، ومن تبعهم بإحسان ما تعاقب الليل والنهار، وسلم تسليماً كثيراً.
قال فيها أما بعد فيا عباد الله: اتقوا الله تسعدوا، وتوسطوا في الأمور تفلحوا، واعتصموا بوصية الله في كتابه، الهادية إلى جنانه ورضوانه: ﴿وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ ۚ﴾.
أَمة الإسلام: إن الاعتدال والتوازن، سمة ظاهرة في الكون، قال سبحانه: ﴿وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا﴾، ﴿وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْزُونٍ﴾، فجعل سبحانه التوازن في خلقه، سنة كونية: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَٰهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِضِيَاءٍ ۖ أَفَلَا تَسْمَعُونَ (71) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَٰهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ ۖ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (72) وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾، وإن من رحمة الله علينا وكرمه، وفضله وجوده ومنته، أن جعل أمة محمد صلى الله عليه وسلم، هي الأمة الوسط بين الأمم، عقيدةً وعملا، وشريعةً ومنهجاً، أثنى الله تعالى عليها في كتابه فقال: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً﴾، فهي وسط في كل الأمور، الدينية والدنيوية، فلا غلو ولا تقصير، ولا إفراط ولا تفريط، وما من شعيرة من شعائر الدين، إلا وهي موصوفة بالاعتدال والوسطية، وفي صحيح الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي جُحَيْفَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: آخَى النَّبِيُّ -صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- بَيْنَ سَلْمَانَ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ، فَزَارَ سَلمَانُ أَبَا الدَّرْدَاءِ، فرَأَى أُمَّ الدَّرْدَاءِ مُتَبَذِّلَةً، فقَالَ لَهَا: مَا شَأْنُكِ؟ قَالَتْ: أَخُوكَ أَبُو الدَّرْدَاءِ لَيْسَ لَهُ حَاجَةٌ فِي الدُّنْيَا، فجَاءَ أَبُو الدَّرْدَاءِ، فصَنَعَ لَهُ طَعَامًا، فقَالَ: كُلْ، قَالَ: فَإِنِّي صَائِمٌ، قَالَ: مَا أَنَا بِآكِلٍ حَتَّى تَأْكُلَ، قَالَ: فَأَكَلَ، فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ ذَهَبَ أَبُو الدَّرْدَاءِ يَقُومُ، قَالَ: نَمْ، فنَامَ، ثُمَّ ذَهَبَ يَقُومُ، فَقَالَ: نَمْ، فَلَمَّا كَانَ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ، قَالَ سَلْمَانُ: قُمِ الآنَ، فَصَلَّيَا، فَقَالَ لَهُ سَلْمَانُ: "إِنَّ لِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا، ولِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، ولأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، فَأَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ". فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((صَدَقَ سَلْمَانُ)).
وقال فضيلته إخوة الإيمان: إن التوازن في الحياة، والتوفيق بين الحقوق والواجبات، من أهم المهمات، فيكون المرء مُتَّزِنًا فِي عباداته ومعاملاته، لا يطغى عليه أمر على حساب غيره، ولا يقدم المهم على الأهم، ولا المفضول على الفاضل، وهو المنهج الذي كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم، وأصحابه الكرام، فالاعتدال هو الاعتصام بحبل الله المتين، والسير على صراطه المستقيم، ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ﴾، وفي سنن الترمذي: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيينَ، عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ))، فأول الحقوق عند أهل التوسط والاعتدال، هو حَقُّ الرب الكريم المتعال، فالله سبحانه لم يخلقنا عبثا، ولم يتركنا هملا، ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ ۖ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ﴾، فخلقنا سبحانه لعبادته، وحده لا شريك له، قال صلى الله عليه وسلم: ((يا مُعاذُ، أتدري ما حَقُّ اللهِ على العِبادِ، وما حَقُّ العِبادِ على اللهِ؟))، قُال معاذ: اللهُ ورَسولُه أعلَمُ، قال: ((حَقُّ اللهِ على العِبادِ أن يَعبُدوه ولا يُشرِكوا به شَيئًا، وحَقُّ العِبادِ على اللهِ ألَّا يُعَذِّبَ مَن لا يُشرِكُ به شيئًا))، متفق عليه، وإذا أدى العبد حق ربه، انتظمت حياته، وأعانه الله على أداء باقي حقوقه، ومن ذلك حق نفسه عليه، من متطلَّباتها الروحيَّة، وحاجاتها الجسدية، والشريعة إنما جاءت باليسر والسَّماحة، والمسايرة للفطرة، فقال سبحانه: ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا﴾، أي: استعمل ما وهبك الله من النعمة في طاعة ربك، وما يحصل به من الثواب لآخرتك، وَلا تنسَ ما أباح الله لك، ولئن كانت الآخرة هي المطلب الأعلى، والمقصد الأسمى، فإن الاشتغال بها، لا يكون على حساب السعي في الحياة الدنيا، والله جل جلاله أنكر على الذين يحرمون على أنفسهم الطيبات، معتقدين بأن ذلك يزيدهم في الدرجات، ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ القِيَامَةِ﴾.
وأضاف فضيلته إخوة الإيمان: إن تنظيم الوقت، وترتيب الأولويات والمهمات، هو المعين بعد توفيق الله، على تحمل المسؤولية، ففي الصحيحين: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((كُلُّكُمْ راعٍ، وكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عن رَعِيَّتِهِ، -وذكر منهم-: والرَّجُلُ راعٍ في أهْلِهِ، وهو مَسْئُولٌ عن رَعِيَّتِهِ))، ورعاية الرجل لأهله، يكون بكل ما يصلح دينهم ودنياهم، وما يحقق لهم النجاح في الدنيا، والفلاح في الآخرة، وأعظم الرعاية، أمرهم بالصلاة، حيث وجه بها سبحانه بقوله: ﴿وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى﴾، وأمر الأهل بالصلاة يا عباد الله، ما هو إلا باعث على القيام بجميع الأوامر والنواهي، لأن الصلاة، أول ما يحاسب عنه العبد يوم القيامة، فإن صلحت فقد أفلح وأنجح، وإن فسدت فقد خاب وخسر، ف﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لاَّ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾.
ثم اعلموا معاشر المؤمنين: أن الله أمركم بأمر كريم، ابتدأ فيه بنفسه فقال عز من قائل: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾.
اللهم صل على محمد، وعلى أزواجه وذريته، كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمد، وعلى أزواجه وذريته، كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد.
وارض اللهم عن الخلفاء الراشدين، أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك وجودك يا أرحم الراحمين اللهم أعز الإسلام والمسلمين، واحم حوزة الدين، واجعل هذا البلد آمنا مطمئنا رخاء سخاء وسائر بلاد المسلمين اللهم يا حي يا قيوم برحمتك نستغيث، أصلح لنا شأننا كله، ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين اللهم فرج هم المهمومين من المسلمين، ونفس كرب المكروبين، واقض الدين عن المدينين، واشف مرضانا ومرضى المسلميناللهم أصلح أحوال المسلمين في كل مكان برحمتك يا أرحم الراحمين
اللهم من أراد بلادنا وأمننا وبلاد المسلمين بسوء، فاشغله بنفسه، ورد كيده في نحره، واجعل دائرة السوء عليه يا رب العالمين
اللهم وفق ولي أمرنا، خادم الحرمين الشريفين، لما تحب وترضى، وخذ بناصيته للبر والتقوى، اللهم وفقه وولي عهده الأمين وأعوانهم، لما فيه صلاح العباد والبلاد، اللهم جازهم بالخيرات، على خدمة الحرمين الشريفين وقاصديهما.