خطب وأم المصلين في المسجد النبوي فضيلة الشيخ الدكتور أحمد بن علي الحذيفي إمام وخطيب المسجد النبوي الشريف.
وبعد أن حمد الله تعالى بدأ خطبته بقوله: معاشر المؤمنين والمؤمنات : إن سيرة نبينا وشمائله الكريمة ليست مجرد حديث عابر ، دون أن يكون لها أثر في حياة المسلم؛ فقد جعل الله تعالى نبينا موضع القدوة والائتساء كما قال سبحانه: (لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا). لأنه مع كونه بشرًا من البشر كما قال جل وتقدس: (قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي)، إلا أنه تعالى حين كمل خصاله وجمل خلاله وهيأه لأن يكون مثال السمو الإنساني والكمال البشري أفاض عليه أنوار تلك الرسالة الربانية، والشريعة الإلهية، فأضاءت الدنيا بذلك السَّنا والسَّناء، (نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء).
وأكمل فضيلته: إن دواوين السنة والتاريخ والسير تحدثنا أنه صلى الله عليه وسلم كان رحمة للعالمين تسري على قدم، وتتمثل في إهاب بشر، وأنه كان نهرًا دفاقًا من الرأفة والرحمة والعفو وحسن الخلق ولين الجانب، لا تعرف القسوة سبيلاً إلى قلبه، ولا ساقط القول طريقًا إلى لسانه، فلم يكن بالفظ ولا الغليظ، ولم يكن عابس الوجه ولا متجهم المحيا أو خشن القول والطبع، عن عطاء بن يسار رحمه الله قال: لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما فقلت: أخبرني عن صفة رسول الله في التوراة، قال: (أجل، والله إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن: يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدًا ومبشرًا ونذيرًا، وحرزًا للأميين، أنت عبدي ورسولي، سميتك المتوكل، ليس بفظ ولا غليظ، ولا صخاب في الأسواق، ولا يدفع بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويغفر، ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء، بأن يقولوا: لا إله إلا الله، ويفتح بها أعينا عميًا، وآذانًا صمًا، وقلوبًا غلفًا).
وأكمل فضيلته: لقد كانت أخلاقه السمية وشمائله السنية من أعظم دلائل نبوته وصدق دعوته، وكأنما اجتمع فيه من الشمائل والفضائل ما تفرق في غيره من بني الإنسان اجتماع مجاري الماء في قرارة الوادي، بل كان محياه البهي ووجهه المشرق ينطق بالصدق، وتلوح فيه مخايله، وتبرق منه أماراته، قال عبد الله بن سلام : لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، انجفل الناس قِبَلَه، وقيل: قد قدم رسول الله، قد قدم رسول الله، قد قدم رسول الله، ثلاثًا، فجئت في الناس لأنظر، فلما تبينت وجهه، عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب، فكان أول شيء سمعته تكلم به أن قال: «يا أيها الناس أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل، والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام»، عليه السلام كان في النصح رحمة، وفي بره بالعالمين ولينه، إمام هدى ينجاب عن وجهه الدجى، كأن الثريا علقت بجبينه.
وبيّن فضيلته : إن من أعظم مظاهر فضل الله على هذه الأمة أن امتن عليها بذلك النبي الأكرم الذي قال فيه جل شأنه: (لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم)، إنه نبي يعز عليه ما يشق على أمته ويعنتها، يحب منها أولها وآخرها، وسابقها ولاحقها، فعن أبي موسى رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله عز وجل إذا أراد رحمة أمة من عباده قبض نبيها قبلها، فجعله لها فرطًا وسلفًا بين يديها»، وعن أبي هريرة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى المقبرة فقال: «السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، وددت أنا قد رأينا إخواننا» قالوا: أولسنا إخوانك يا رسول الله؟! قال: «أنتم أصحابي، وإخواننا الذين لم يأتوا بعد».، إن ذلك النبي الكريم صلوات الله وسلامه عليه حقيق بأن يمتلئ القلب بحبه وتوقيره والشوق إليه، وأن يلهج اللسان بكثرة الصلاة عليه، فكيف إذا كان منه داني الدار قريب الجوار؟! وأبرح ما يكون الشوق يومًا، إذا دنت الديار من الديار، وإن لسان ميزان الحب الصادق هو المسارعة في طاعة المحبوب، والسعي في نيل مرضاته، فالمحبة الكاملة الصادقة مقرونة بشواهد صدقها وآثار تحققها، ومحبة النبي صلى الله عليه وسلم مع ما يتعبد به المؤمن لربه، ويفوز بمحبته وقربه، بل إن حبه من آثار حب الله تعالى، فإن النبي صلى الله عليه وسلم عند ربه بالمحل الأسنى والمنزل الأعلى، ومن صدق في محبة محبوبه أحب ما يحب ومن يحب، وبغض ما يبغض ومن يبغض، كما أن المحب دائم الشوق إلى محبوبه، كثير اللهج به، شديد التوقير له، أما المحبة التي ليس لها أثر في واقع الحياة سوى العكوف على أطلال الرسوم الظاهرة فهي محبة ناقصة، فمن كان هذا حاله فى حبه فليكمل جوانب ذلك النقص فى محبة سيد الخلق صلى البه عليه وسلم فإن المحبة الصادقة باب واسع من أبواب المعية وبلوغ المنازل العلية.
واختتم فضيلته الخطبة بقوله: فإن نبينا صلى الله عليه وسلم قد اجتباه ربه بتلك الشمائل والفضائل من بريته واصطفاه من خليقته؛ ليكون واسطة عقد الأنبياء الكرام عليهم الصلاة والسلام، مبلغًا عنه دينه الخاتم، ليعيد بتلك التعاليم الربانية صياغة الإنسان، ويرتقي به في مدارج كماله الإنساني إلى حيث أراد الله له أن يكون في هذه الدنيا، بعد أن انحط الإنسان قبل زمن رسالته إلى دركات من الجهل والظلم والظلام والوثنية، فلا غرو بعد ذلك أن تسير دعوته مسير الشمس، وأن تبلغ ما بلغ الليل والنهار، في أزمنة غابرة تترامى فيها الأقطار وراء القفار والبحار، وأن تملأ الدنيا رحمة وعدلاً وحضارة وعلمًا وإنسانية، فحقيق بالمسلم أن يجعل نبيه صلى الله عليه وسلم موضع اقتدائه ومحل ائتسائه، لينال بذلك شرف متابعته ويحقق صدق محبته.