أمّ المصلين في خطبة الجمعة بالمسجد الحرام فضيلة إمام وخطيب المسجد الحرام الشيخ الدكتور بندر بليله وتحدث فضيلته في خطبته الأولى عن الأعمال القلبية بينه وبين الله فقال: إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة! وإن دخلها-بإيمانه- كان من أخفض أهلها رتبة، وأقلهم بهجة، وأدناهم نعيما.. هذه الجنة المعجلة هي جنة الأعمال القلبية من: المعرفة بالله، والأنس به، والفرح به، والتلذذ بمناجاته، والإخلاد إلى قربه، والاطمئنان بالخضوع له، والاستكانة له على ساق الخوف والوجل، والسير إليه على منهاج الرجاء والأمل، وتفريغ القلب من كل حب سوى حبه يساوي حبه أو يساميه، وتعظيم محبته على سائر المحاب، وتقديم مراضيه على كل الرغاب، بهذا تذاق حلاوة الإيمان، وعندها تشَّق في القلب أسارير اليقين، وتهتدي النفس إلى معارج الهداية والتوفيق.
وإن أردت اجتماع ذلك في قلبك، واستقراره في لبك، فلا بد أن تهيئ له صدرا بارا، وقلبا سليما؛ فإن المعاملات القلبية الفاضلة الشَّريفة لا تستقر إلا في قلب سالم من الآفات والقواطع، نقي من الدخل والزغل، بريء من الكبر والعجب والبغي، متسام عن الحقد والحسد والضغينة والشحناء!
ذلكم القلب السليم، الذي تنافس في تحصيله أرباب الآخرة-وأرباب الدنيا في غفلة سامدون- وأضنوا أيامهم ولياليهم رجاء التنعم به؛ فإنه ليس في الدنيا لذة ولا نعيم أطيب من بر القلب، وسلامة الصدر، ومعرفة الرب تعالى ومحبته، والعمل على موافقته، وهل العيش في الحقيقة إلا عيش القلب السليم؟.
وبين فضيلته أن القلب السليم مثال قلب إبراهيم عليه السلام والنبي صلى الله عليه وسلم والصحابة الكرام فقال: وهل القلب السليم إلا قلب إبراهيم الخليل-عليه السلام- إذ تبرأ من
الشَّك والوثنية؛ فقال لأبيه وقومه: (قال أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون فإنهم عدو لي إلا رب العالمين)الشعراء: ٧٥ – ٧٧.
وهل القلب السليم إلا قلب محمد الخاتم الأسوة صلى الله عليه وسلم .. ذلك القلب الرحب الذي «ما انتقم لنفسه قط إلا أن تنتهك حرمة الله؛ فينتقم لله». أخرجه الشيخان. وهل القلب السليم إلا قلب الشيخين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما حينما شجر بينهما أمر؛ فعاد كل منهما يتلوم نفسه، ويعتذر إلى أخيه.. فيما حكاه أبو الدرداء رضي الله عنه قال: كنت جالسا عند النبي صلى الله عليه وسلم ؛ إذ أقبل أبو بكر أخذا بطرف ثوبه حتى أبدى عن ركبته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أما صاحبكم، فقد غامر»! فسلم وقال: إني كان بيني وبين ابن الخطاب شيء؛ فأسرعت إليه، ثم ندمت، فسألته أن يغفر لي، فأبى علي! فأقبلت إليك. فقال: «يغفر الله لك يا أبا بكر» ثلاثا. ثم إن عمر ندم، فأتى منزل أبي بكر، فسأل: أثم أبو بكر؟ فقالوا: لا.
فأتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فسلم، فجعل وجه النبي صلى الله عليه وسلم يتمعر، حتى أشفق أبو بكر، فجثا على ركبتيه، فقال: يا رسول الله ، والله أنا كنت أظلم مرتين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : «إن الله بعثني إليكم، فقلتم: كذبت، وقال أبو بكر: صدق! وواساني بنفسه وماله، فهل أنتم تاركو لي صاحبي؟» مرتين. فما أوذي بعدها! أخرجه الشيخان. الله أكبر! قلوب عن الحطام تسامت، لم يكدر صفوها قال وقيل! وهل القلب السليم إلا قلب سعد بن الربيع الأنصاري رضي الله عنه يوم آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينه وبين عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه فناصفه في أهله وماله! قال أنس رضي الله عنه: قدم علينا عبد الرحمن بن عوف المدينة، وآخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينه وبين سعد بن الربيع، وكان كثير المال، فقال سعد: قد علمت الأنصار أني من أكثرها مالا. سأقسم مالي بيني وبينك شطرين. ولي امرأتان: فانظر أعجبهما إليك؛ فأطلقها حتى إذا حلت تزوجتها! فقال عبد الرحمن: بارك الله لك في أهلك ومالك. دلني على السوق. الحديث أخرجه البخاري. فلله هذه الأخوة الراسخة، والنفوس الشامخة..قلوب زادها الإسلام طيبا.. فأمرع في نواحيها الوفاء.
واختتم فضيلته خطبته الأولى بتذكير تنظيف القلوب من الرجال والنساء فقال: أحوال رجال ونساء صدقوا وأخلصوا دينهم لله، وطهروا قلوبهم من
أدران الغل والغش والحقد والحسد والأثرة والشح، فسموا إلى الجنة وهم في عداد الأحياء، وتعجلوا من نعيم أهلها فعاشوا عيشة السعداء.. ولا عجب فأهل القلوب السليمة هم أهنأ الناس عيشا، وأصلحهم بالا، وأحسنهم حالا.. وأبعدهم عن الهموم والغموم والأحزان؛ فإنهم لا يبالون ما فاتهم من حطام الدنيا، ولا ينغص عليهم سوء مقالة، ولا قبيح بادرة، وإنما يعولون على حظهم من الله ، قد جعلوه كل همهم، وغاية قصدهم، ومنتهى أملهم، فإذا تم لهم حظهم منه، أنسوا به كل الإيناس.. فهؤلاء والله هم صفوة العالم وخلاصة بني
آدم! وليس العيش إلا عيشهم، ولا النعيم إلا نعيمهم.
وتحدث فضيلته في خطبته الثانية عن معالجة القلوب فقال: إن في معالجة أدواء القلوب لشدة؛ فإنها كثيرة، وإن الهوى موكل بتزيينها وتحسينها إلى النفس وإظهارها في قوالب براقة خداعة، وإن الشيطان ليزيد في كيد العبد بها؛ ليرديه في مهاوي الهلاك، ويورده معاطب التلف! وسبيل النجاة: إرغام النفس على مخالفة هواها، وألا تميل معه حيث مال، فإنه داء دوي قتال، كم له في الناس من صَيع لا حراك به، وذريع لا حياة فيه! وليدفع العبد المكر الإبليسي والكيد الشيطاني بالإقبال على المجاهدات؛ فإن كثرة المجاهدات تذكي زناد العزائم، وتوري خامد القرائح..وإذا آنس العبد في نفسه شيئا من هذه المكدرات لسلامة القلب؛ فليعالجها علاج الطبيب، بالتعرف على أسبابها، ولينظر إليها نظر الحكيم؛ بالتفكر في عواقبها ومآلها.. فإذا وجد على نفسه كبرا-وهو من أعظم الأدواء السالبة لسلامة القلب- فليدفعه عن نفسه بأن يعلم أنه مخلوق ضعيف حقير لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا، وأن كل سبب يوقعه في شراك الكبر، فهو زائل باطل، وأنه إن كان نعمة من الله بها عليه، فهي من الله لا منه، وإليه سلبها، ولا يملك دوامها كما لم يملك ابتداءها، فإذا زال عنه الغطاء، انكشفت له نفسه ورآها مجلوة، ورأى الضعف والقصور والجهل والظلم، رأى ذلك محيطا به، ولم يجد لنفسه مخلصا، فالقلب خرب، والنفس ظالمة.. والزاد نافد، والسير طويل، والحساب وبيل.