الثلاثاء, 31 أيار 2022 10:48

بثلاث عناوين متخصصة في الإفتاء .. انطلاق أولى جلسات ندوة ( الفتوى في الحرمين الشريفين وأثرها في التيسير على قاصديهما )

قيم الموضوع
(3 أصوات)


ضمن فعاليات ندوة ( الفتوى في الحرمين الشريفين وأثرها في التيسير على قاصديهما ) ، انطلقت أولى جلسات هذه الندوة المباركة، بالتعاون مع الرئاسة العامة للبحوث العلمية والإفتاء حيث ترأس الجلسة الأولى معالي المستشار بالديوان الملكي عضو هيئة كبار العلماء إمام وخطيب المسجد الحرام معالي الشيخ الدكتور صالح بن عبدالله بن حميد، شكر فيها ولاة أمرنا -حفظهم الله- على إقامة هذه الندوة المباركة والقائمين عليها، وأثر هذه الندوة على قاصدي الحرمين الشريفين، وأتت الجلسة الأولى بعنوان (الفتوى في الحرمين الشريفين وأثرها ) ومقررها فضيلة مساعد الرئيس العام لشؤون المسجد الحرام الدكتور سعد بن محمد المحيميد ، وسيتحدث كل من :
معالي الشيخ الأستاذ الدكتور سعد بن ناصر الشثري المستشار بالديوان الملكي عضو هيئة كبار العلماء ، عضو اللجنة الدائمة للفتوى، عن أثر الفتوى في الحرمين الشريفين في التيسير على قاصديهما ، تطبيقات على مسائل مستجدة في الحرمين تحدث فيها: عن أثر الفتوى في الحرمين الشريفين في التَّيسير على قاصديه، وسأوردُ تطبيقاتٍ على مسائلَ مستجدةٍ في الحرمين الشريفين.
حيثُ سأوردُ الآن عدداً من القواعدِ الشرعية المتعلقة بالتَّيسير، والتي يستخدمُها الفقهاءُ فيما يتعلق بأمور المناسكِ، وزيارة الحرمين الشريفين، ولها تطبيقاتٌ مستجدةٌ عديدةٌ، ولعلي أشير إليها عند الحديث في ذات الندوة.
القاعدةُ الأولى: تعليقُ التكاليفِ بالاستطاعة.
كما قال تعالى ﴿ وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا ۚ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ﴾[آل عمران:97]
وكما قال تعالى ﴿فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ مَا ٱسۡتَطَعۡتُمۡ ﴾[التغابن:16] وكما قال جل وعلا ﴿لَا يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفۡسًا إِلَّا وُسۡعَهَاۚ﴾[البقرة:286]
القاعدةُ الثانية: المشقة تجلبُ التَّيسير، والعسر سببٌ من أسباب اليسر.
لقوله سبحانه ﴿فَإِنَّ مَعَ ٱلۡعُسۡرِ يُسۡرًا (5) إِنَّ مَعَ ٱلۡعُسۡرِ يُسۡرا ﴾[الشَّرح:5-6]
وقوله جل وعلا ﴿ وَمَا جَعَلَ عَلَيۡكُمۡ فِي ٱلدِّينِ مِنۡ حَرَج ﴾[الحج:78]
القاعدةُ الثالثة: استحبابُ عملِ الرُّخَصِ الشَّرعية.
كما قال النَّبي-صلى الله عليه وسلم- "إنَّ اللهَ يُحبُّ أن تُؤتَى رُخَصُه، كما يُحبُّ أن تُؤتَى عزائمُه".
القاعدةُ الرابعة: أن الأفعال النَّبوية العاديَّة لا يُشرع الاقتداءُ بالنَّبي-صلى الله عليه وسلم- فيها.
فإن أفعال النَّبي-صلى الله عليه وسلم- قد تكون من الأفعال الخاصة به، وبالتالي لا يشرع للناس الاقتداء به.
كما في قوله جل وعلا ﴿ وَامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَن يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ﴾[الأحزاب:50]
وهناك أفعالٌ فَعَلها النَّبي-صلى الله عليه وسلم- على مقتضى الِجبلَّة والعادة والمجاراة لأهلِ زمانه، فهذه لا يقال بأنها سنة، أو يستحب للناس أن يفعلوها.
ومن أمثلة ذلك كونُ النَّبي-صلى الله عليه وسلم- حجَّ على ناقته. فإن الحجَّ على النَّاقة من الأفعال النَّبوية العادية، ولذلك لا يقالُ بأنَّه يُشرع الاقتداء بالنَّبي-صلى الله عليه وسلم- فيها.
القاعدةُ الخامسة: الموازنة بين الأعمال بحسب فضلها لا بحسب مشقتها ولا بحسب ندرتها.
فمثلاً: لو جاءنا من يريدُ أن يوازنَ بين أداء عمرةٍ أخرى، وبين أداء صلواتِ النَّوافل قِيل له: بأنَّ الصلاةَ أفضل ولو كانت العمرةُ أشقُّ ولو كانت العمرة أندر؛ وذلك لما ورد في الحديث أن النَّبي-صلى الله عليه وسلم- سُئل أي الأعمال أفضل؟ فأجاب بالصلاة.
القاعدةُ السادسة: للوسائل أحكام الغايات.
فإن الشريعة كما أمرت بالأفعالِ التي هي غايةٌ تَقصِدُها للتقربِ إلى الله تعالى، فإن ما كان وسيلةً لتحقيق تلكَ الغايات فإنَّه يأخذُ حُكمَ تلك الغاياتِ سواءً فيما يتعلقُ بالأجر والثواب، ولهذا قواعدُ متعددة منها قولُهم:
ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
ما لا يتم ترك الحرام إلا بتركه فهو حرام.
القاعدةُ السابعة: الاشتغال بغير المقصود إعراضٌ عن المقصود.
ومثاله: لما قَدِمَ النَّاسُ في هذه المواطن لأداءِ النُّسك، فإن اشتغالَهم بما لم يقصدوه من الإتيانِ لهذا البيتِ يُعتبر إعراضاً عن المقصودِ.
من أمثلة ذلك: الاشتغالُ بالتَّصوير خصوصاً في الممرات وفي الذهاب والإياب.

القاعدةُ الثامنة: مشروعيَّةُ العمل بالبدائلِ الشرعيَّة.
سواء كانت هذه البدائل على جهة التخيير كما قي قوله تعالى ﴿ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّىٰ يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ ۚ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ ﴾[البقرة:196] ويُلاحظ هنا أنه قد عطف بينها بحرف (أو) وفي بعض المواطن (بواو) مما يعني تساوي هذه الواجبات، وليس بعضُها بأفضلَ من بعضها الآخر.
أو كانت على سبيلِ التَّرتيب كما في قوله تعالى ﴿ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ۚ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ ۗ ﴾[البقرة:196]

القاعدةُ التاسعة: التخيير في التقديم والتأخير في أفعال النسك.
كما ورد في الحديث أن النَّبي-صلى الله عليه وسلم- ما سُئِلَ عَنْ شَيْءٍ مِن أفعالِ يومِ النَّحْرِ قُدِّمَ وَلا أُخِّرَ إلاَّ قَالَ: افْعَلْ وَلا حَرَجَ.
القاعدةُ العاشرة: النيابة في الأعمال غير المقصودة لذاتها، أو التوكيل فيها.
ومن أمثلة ذلك: النيابةُ في ذبح الهدي، والنيابة في التقاط حصى الجمار، هكذا من القواعد التي يستعملها أهلُ الفقه والفَتوى في هذا الباب: التفريقُ بين مكان العبادة المقصود والمكان غير المقصود.
ومن هنا نفرق بين ما وردَ في الأحاديثِ تخصيصُه بمكان كما في قوله تعالى ﴿وَلۡيَطَّوَّفُواْ بِٱلۡبَيۡتِ ٱلۡعَتِيقِ ٢٩﴾[الحج:29].
وما لم يتم تخصيصه بمكان كقوله النَّبي-صلى الله عليه وسلم- "وقَفْتُ ها هنا بعَرفةَ، وعرَفةُ كلُّها مَوقِفٌ"
وكما قال -صلى الله عليه وسلم-كلُّ منى وفِجَاجُ مَكَّة مَنْحَر.
أيضاً من القواعد في هذا الباب: اجتناب توهم التيسير.
فإنَّه في بعض المراتِ قد يَظن بعضُ النَّاس أن التيسير في شيء ويكون التيسير في مقابله،
ومن أمثلة ذلك ما يتعلق بمسألة أداء المرأةِ للنُّسك بدون مَحرَم، وقد قدمتْ من بلادٍ بعيدة، فإن بعض النَّاس يتوهَّمُ أن التَّيسير في الإذن للمرأةِ أن تأتي للنُّسك بدون محرم، وبينما التيسير أن يقال لها: إن عجزت عن اصطحاب المحرَم كُتِبَ لك أجر الحجِّ كاملاً، أو أجر العمرة بدون أن يكونَ هناكَ تكلفةٌ وتعبٌ أو نفقات.

هكذا أيضاً من القواعدِ المتعلقة بهذا: نفيُ الخرافات أو البدع.
خصوصاً المتعلقة ببعض المواطنِ أو بعض الأمكنة التي تُزار بدونِ أن يكون لزيارتها الفضيلةُ الثابتة.
ومن القواعدِ التي تتعلق بهذا أيضاً: اجتناب توهم السنة.
يعني مثلاً في بعضِ الأفعال التي فعلها الرسول -صلى الله عليه وسلم- يعتقد بعضُ الناس أنها مقصودةٌ لذاتها، وبالتالي يظن أنه يُرغِّب فيها مثل: ذهاب النَّبي-صلى الله وسلم- للمحصَّب ومثل: كونهِ بَالَ لما ذَهَبَ من عرفة إلى المزدلفة.
أيضاً من القواعدِ الشَّرعيَّة المتعلقة بهذا: مراعاةُ الازدحام واختيارُ الأوقات المناسبة لأداء العبادات.
ليكون ذلك بهداوة نفس وطمأنينة، وبالتَّالي يكونُ لها من تحقيق المقصودِ الشَّرعي ما يتناسب مع تلك التَّكاليفِ الشَّرعية.
باركَ الله فيكم، ووفقكم لكلِّ خير، وجعلني الله وإياكم هداة مهتدين، هذا والله أعلم.
وتحدث معالي الشيخ الأستاذ الدكتور عبدالسلام بن عبدالله السليمان عضو هيئة كبار العلماء ، وعضو اللجنة الدائمة للفتوى، وسيتحدث عن ضوابط تغير الفتوى ، تطبيقات على مسائل مستجدة في الحرمين الشريفين، قال فيها:

فهذه ورقة عمل بعنوان ضوابط تغير الفتوى، تطبيقات على مسائل مستجدة في الحرمين الشريفين، مقدمة لندوة الفتوى في الحرمين الشريفين، وأثرها في التيسير على قاصديهما المقامة في الحرم المكي بمكة المكرمة بتأريخ 1/11/1443هـ بالشراكة بين الرئاسة العامة لشؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي الرئاسة العامة للبحوث العلمية والإفتاء.

فإنه من نعم الله على هذه الأمة بأن أكمل لهم الدين وحفظه لهم، قالَ تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾ [المائدة: 3]، وهذا يدل على كمال الشريعة، وأنها ثابتة لا تتبدل ولا تتغير مع تغير الزمان والأحوال، والأصل في الأحكام الشرعية أنها ثابتة ولا تتغير، والأحكام الشرعية التي تضمنتها تلك الشريعة الخاتمة شاملة وثابتة لا يشوبها نقص أو قصور، ولا يعتريها تبديل أو تغيير.

الفرق بين الحكم الشرعي والفتوى:
الحكم الشرعي: هو خطاب الله – تعالى – المتعلق بأفعال المكلفين؛ طلبا أو اقتضاء أو تخييرا .

الفتوى: هي الإخبار عن حكم الله في أمر مسؤول عنه شرعا، وتوضيحه للسائل، على غير وجه الإلزام، فهي إنزال الحكم الشرعي على واقع المستفتي.
وعرفه مجمع الفقه الإسلامي للفتوى:

(بيان الحكم الشرعي عند السؤال عنه، وقد يكون بغير سؤال ببيان حكم النازلة لتصحيح أوضاع الناس وتصرفاتهم).

وقالوا في المجمع : إن المقصود من الفتوى في عملنا هو: (ما يصدر من آراء فيما يشغل بال الأمة الإسلامية من مشاكل العصر وعرضها على المجمع ليبت فيها).

فالغالب أن الحكم الشرعي متعلق بأفعال العباد على وجه العموم، فلا ينظر فيه إلى واقع أفراد الناس، والغالب أن الفتوى هي ما كانت مرتبطة بواقع ما، ومسألة خاصة لفرد من الناس يستثنى فيه من حكم شرعي، فالفتوى تطبيق الحكم الشرعي على نازلة أو واقعة ما، أو على واقع الأفراد.

وعليه فإن الفتوى قد ترتبط بها عدة عوامل تتغير بسببها الفتوى وتترتب عليها، ومثال ذلك: أن يُسأل المفتي في مسألة معينة قد اجتمعت لها كل عواملها، فيفتي بالحكم الشرعي الذي ينطبق عليها، ثم تأتي مسألة ثانية مشابهة لها، لكن بينهما فرق مؤثر متعلق ببعض العوامل الأخرى في هذه المسألة؛ فيفتي بخلاف ما أفتى به في المسألة الأولى.

الفرق بين الضابط والسبب:
اختلف العلماء في تعريف الضابط وبيان مفهومه إلى قولين:

الأول: أن الضابط مرادف للقاعدة دون فرقٍ بينهما.

الثاني: عرف الضابط الفقهي بتعريف خاص عن القاعدة، ومن هذه التعريفات:

أنه ما انتظمَ صورًا متشابهة، في موضوع واحد من أبواب الفقه، يكشف عن حكم الجزئيات التي تدخل تحت موضوعه، مثاله: (الأصل في الماء الطهارة).

تعريف السبب: الوصف الظاهر المنضبط الذي دلَّ الدليل السمعي على كونه مُعرِّفًا لحكمٍ شرعي، كزوال الشمس عن وسط السماء سبب للحكم التكليفي الشرعي:

وجوب صلاة الظهر، فإنه وصف ظاهر منضبط.

أما ضوابط تغير الفتوى:

الضابط الأول: أن تصدر الفتوى المتغيرة من أهل الاختصاص، كالعلماء والمجامع والهيئات العلمية، بشرطهما المعروف في الاجتهاد عند أهل العلم، فلا يصلح أن تتغير بحسب الهوى والتشهي، واستحسان الناس واستقباحهم، وبالتالي لا يكون مجرد تغير الزمان والأحوال سببا لتغير الفتوى، وإنما يكون هذا سببا يدعو المفتي للنظر في المصلحة المعتبرة شرعا التي تراعي الحال والزمان معتمدا على الدليل من الكتاب والسنة، ولعِظم مكانتها قال الإمام الشاطبي: (المفتي قائم في الأمة مقام النبي صلى الله عليه وسلم).

الضابط الثاني: عدم مخالفة الفتوى للكتاب والسنة، فالمقصود هو أن لا تكون الفتوى المنظور فيها ثبت فيها نص من الكتاب والسنة، فالفتوى التي تتغير لا بد لها من أصول شرعية، وعلل ومصالح مرعية موافقة لما في الكتاب والسنة، فلا يغير ما عارض النص من القرآن أو السنة الصريحة أو المتواترة أو القطعية الدلالة.
الضابط الثالث: أن لا تعارض مسألة مجمع عليها، وهو أن لا تعارض الفتوى المراد النظر فيها إجماعا متيقنا، لأن الأمة لا تجتمع على ضلالة، فالإجماع حجة شرعية، قال الإمام الشافعي : (وأمرُ رسول الله صلى الله عليه وسلم بلزوم جماعة المسلمين مما يحتج به في أن إجماع المسلمين - إن شاء الله – لازم).

وعليه فتكون المسائل المتعلقة بتغير الفتوى هي المسائل التي يسوغ فيها الخلاف، مثاله: (قاعدة: مراعاة الخلاف)، قال الشاطبي: (لذلك نجد المسائل المتفق عليها لا يُراعى فيها غير دليلها، فإن كانت مختلفًا فيها، رُوعي فيها قول المخالف، وإن كان على خلاف الدليل الراجح عند المالكي، فلم يعامل المسائل المختلف فيها معاملة المتفق عليها...).

الضابط الرابع: القياس الصحيح، وهذا يعني أن تكون الفتوى المنظور فيها تعتمد على قياس صحيح، وعليه لا تكون الفتوى منضبطة إذا كان القياس على غير أصل شرعي، أو أن يكون هناك فارق معتبر في القياس بين الأصل والفرع، أو أن تكون العلة مضطربة غير منضبطة ولا صحيحة، أو أن يكون المقيس عليه واقعة عين أو حال لا عموم لها.

وربما يترك القياس ويأخذ بالاستحسان، فإن من استحسن لم يرجع إلى مجرد ذوقه وتَشَهِّيه، وإنما رجع إلى ما علم من قصد الشارع في الجملة من أمثال تلك الأشياء المفروضة.

الضابط الخامس: النظر إلى المآلات، وهو ملاحظة ما يرجع إليه الفعل بعد وقوعه، وما يترتب عليه، وآثاره الناتجة منه، فيأخذ الفعل بهذا النظر حكمًا يتفق مع ما يرجع إليه ويؤول إليه ذلك الفعل، سواء قصده الفاعل أم لا ؛ فعلى المفتي قبل الإجابة على السؤال النظر في المآلات المتعلقة بالفتوى وتغيرها، مع ما يستوجبه من معرفة أحوال الناس وعاداتهم ونحو ذلك، وتحقيق المناط الشخصي الخاص أيضًا.

الضابط السادس: أن لا تصادم مقاصد الشريعة، العمل بالمقاصد في تغير الفتوى أساس مهم لتنزيل الأحكام الشرعية لمقاصدها، ولا يصلح أن يؤدي تغير الفتوى إلى مصادمة لمقاصد الشريعة، فلا بد لكل مُفْتٍ ومجتهد أن يكون على دراية بها، فـ(ـإنما تحصل درجة الاجتهاد لمن اتَّصف بوصفين: أحدهما فهم مقاصد الشريعة على كمالها، والثاني التمكُّن من الاستنباط بناءً على فَهْمه فيها)، ولابد من الدقة والتحري، فمن المحتمل أن يكون المقصد ظنيا غير قطعي، أو مرجوحا غير راجح، أو متوهما غير حقيقي، أو تكون الوسيلة لتحقيق المقصد لا يمكن تحقيقها.

الضابط السابع: أن تراعي الفتوى تغير الزمان والمكان والحال والعرف، وهنا يجب أن تنضبط المسألة فــي الفتوى الجديدة بعدة أمور:

أولا: أن الفتوى هي التي تتغير وليس الحكم الشرعي.

ثانيا: أن الفتوى التي تتغير يكون حكمها الشرعي مرتباً على المكان والزمان والعوائد والأعراف المتغيرة.

ثالثا: أن الفتوى التي تتغير يوازن فيها بين المصالح والمفاسد.

رابعا: أن تكـون المصلحة معتبـرة، أو مرسلة شهد الشرع لجنسها بالاعتبار.

خامسا: أن يكون العرف مطردا أو غالبا، ومقارنا للتصرف أو سابقا له، وكما هو معلوم بأن تغير الزمان والمكان يترتب عليهما تغير الحال والعرف في كل بلد.

مسائل مستجدة في الحرمين الشريفين
تنقسم المسائل المتعلقة بالحرمين الشريفين إلى خمسة أقسام:

القسم الأول: مسائل تصدر بقرارات من ولي الأمر، مما يتعلق بالتنظيمات العامة للحرمين الشريفين من عمارتها وتنظيم الحج والعمرة والزيارة، كالقرارات الموفَّقة التي صدرت خلال جائحة كورونا بالاحترازات في الحرمين الشريفين وتوقف العمرة والحد من عدد الحجاج والاقتصار على حجاج الداخل وقت انتشار المرض، وهذه القرارات تنعكس على الفتوى، حيث تتغير الفتوى بناء على هذه القرارات.

القسم الثاني: مسائل متعلقة بالفتوى العامة والنوازل والتي تصدر من هيئة كبار العلماء أو اللجنة الدائمة للفتوى والتي تتعلق بالحرمين، وقد صدر من هيئة كبار العلماء قرار بتوقف صلاة الجمعة والجماعة في المساجد واستثناء الحرمين الشريفين في أزمة كورونا، وهذا الاستثناء جاء لمراعاة ما للحرمين من أهمية في العالم الإسلامي، مع قصرها على عدد محدود.


القسم الثالث: مسائل متعلقة برئاسة شؤون الحرمين،
وهذه المسائل في غالبها متعلقة بالأمور التنظيمية في الحرمين، وتصدر من لجنة علمية خاصة بالرئاسة مع استشارة للعلماء في هيئة كبار العلماء والمختصين، وهي في غالبها مبنية على قاعدة (سد الذرائع) وقاعدة (المشقة تجلب التيسير) وقاعدة (الضرر الأشد يُزال بالضرر الأخف) وغيرها من القواعد الشرعية، والتي تقوم على المقاصد والمصالح، لأن الشارع ما شرع أحكامه إلا لتحقيق مقاصدها من جلب المصالح ودرء المفاسد، ولذلك نجد أن المسائل الخاصة برئاسة شؤون الحرمين في أغلبها مسائل أصلها الإباحة أو مأمور بها على سبيل الاستحباب أو الوجوب ولكن يترتب على العمل بها فعل محظور أو تحقق مفسدة أو ترك مصلحة راجحة، وبالتالي الوسيلة إذا أفضت إلى مفسدة فلا يعمل بها، فوجب قطع الذريعة لما ينجم عنها من مفاسد.

ومن هذه المسائل:

1- صلاة الإمام في المسجد النبوي في محراب الروضة الشريفة بدل المحراب السابق.
وهو ما تم العمل به في المسجد النبوي بالصلاة خلف محراب الروضة الشريفة والتأخر في الصفوف عن المحراب السابق، وهذه المسألة تم العمل بها لتحقيق المصالح ودفع المفاسد، وفيها التيسير على ذوي الموتى عند الصلاة على الجنائز وكذلك لتنظيم السلام على النبي صلى الله عليه وسلم وتجنب الزحام الذي يحصل بين المصلين في الصفوف الأولى وبين من يريد السلام على النبي صلى الله عليه وسلم، ولمصالح أخرى يحققها هذا القرار.


2- تأخر الإمام عند الصلاة على الجنائز وتقدم بعض المصلين في المسجد الحرام.

هذه المسألة مبنية على تحقيق المصالح، ودفع المفاسد التي كان العمل عليه سابقا من نقل الجنازة إلى صحن الحرم ووضعها في الحجر، واعتراضها عند الحمل للطائفين وللمصلين، مما يترتب على ذلك مشقة كبيرة على من يحمل الجنازة ويتبعها، وكذلك ما يحصل من مضايقة للطائفين والمصلين، وقد أخذت الرئاسة في هذه المسألة بأقوال بعض أهل العلم في جواز تقدم المصلي في صلاة الجنازة على الإمام عند الحاجة.

3- مسألة تأخر الإمام عن المأمومين عند الصلاة في المسجد الحرام في موسم الحج.

المعمول به في غير موسم الحج إبعاد المصلين عن قبلة الإمام تجاه الكعبة، أما في أيام موسم الحج يصعب تحقيق ذلك لوجود صعوبة ومشقة في إبعاد المصلين عن قبلة الإمام، فيصلي المأمومون أمام الإمام في صحن المطاف، وهذه المسألة مبنية على قاعدة (المشقة تجلب التيسير)، ومن المعلوم أن رفع الحرج عن المكلف والتيسير له من مقاصد الشريعة، فالتيسير ورفع الحرج مؤداهما واحد أو هما شيء واحد. لقوله تعالى: ﴿ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ ﴾[ سورة المائدة: 6]. وقوله تعالى: ﴿ ﴿ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ﴾[ سورة البقرة: 185]. ومن تعسر عليه فعل شيء من الواجبات سقط عنه بدليل قوله تعالى: ﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ﴾ [سورة البقرة: 286]، وكذلك يسند هذا المسألة أقول لأهل العلم في جواز تقدم المأموم على إمامه عند عدم تمكنه من الصلاة خلفه أو بمحاذاته.

4- إقامة الصلاة مباشرة بعد الأذان وعدم الانتظار لصلاة السنة بين الأذانين.
في موسم الحج ومع الزحام الشديد في المسجد الحرام وصحن المطاف خاصة، تقام الصلاة مباشرة بعد الأذان مراعاة لحال الحجاج ، فتم ترك السنة من أجل تحقيق مصلحة ودفع مفسدة.

ملحوظة: يجدر التنبيه هنا على مسألة مهمة متعلقة بإقامة الصلاة مباشرة بعد الأذان، وهي لمن يسكن الأبراج العالية عند الحرم وهو يصلي مع الإمام في سكنه، فتقام الصلاة وهو يرى الشمس في سكنه المرتفع، فهل يصلي مع الإمام أم ينتظر حتى غياب الشمس، وكذلك إفطاره إذا كان صائما، فالصحيح أنه لا يصلي مع الإمام ولا يفطر حتى يتحقق من غياب الشمس.

5- منع غير المعتمرين من الطواف والصلاة في صحن المطاف.
وهذه المسألة متعلقة بدفع الضرر المترتب على الزحام في صحن المطاف وأهمية الاحترازات التي تحافظ على سلامة المعتمرين والمصلين.

6- وضع الحواجز حول الكعبة ومنع الطائفين من استلام الركن اليماني، وتقبيل الحجر الأسود، والوقوف عند الملتزم.

وهذه المسألة متعلقة بالاحترازات التي تحافظ على سلامة الطائفين عند تقبيل الحجر الأسود، أو استلام الركن اليماني، أو الوقوف عند الملتزم، واحتمال انتقال العدوى بسبب ذلك، إضافة إلى دفع الضرر المترتب على الزحام عندها، ولأهمية الاحترازات التي تحافظ على سلامة المعتمرين والطائفين والمصلين.
7- تخصيص أماكن للمعتكفين.

خصصت الرئاسة أماكن خاصة للمعتكفين في المسجد الحرام والمسجد النبوي مع توفير ما يحتاجه المعتكف خلال اعتكافه، وعمل الاحترازات التي تحافظ على سلامتهم، وتم منع الاعتكاف في غير الأماكن المخصصة للاعتكاف.
8- تخصيص أماكن خارج المسجد للموظفات صاحبات الأعذار.

مع وجود الحاجة الملحة لعمل النساء داخل الحرمين الشريفين للإشراف على مصليات النساء وغيرها من المهام، خصصت الرئاسة أماكن للموظفات صاحبات الأعذار للعمل فيها أثناء فترة العذر، وهذه المسألة متعلقة بعدم جواز مكث المرأة الحائض في المسجد.

9- تباعد الصفوف.
وضعت الرئاسة أماكن مفتوحة داخل المسجد الحرام من أجل استخدامها عند الحاجة لها أو عند الضرورة في المهمات الخاصة، ويحصل بسببها تباعد الصفوف، ويمنع الصلاة في هذه الأماكن، وهذا الأمر مبني على قاعدة سد الذرائع ودفع المفاسد، من أجل سلامة المعتمرين والمصلين.

10- قطع صلاة من يصلي في الممرات أو يصلي في أماكن غير مخصصة للصلاة.
وهي مسألة مهمة متعلقة بتعدي بعض المصلين والصلاة في مكان تم حجزه في المسجد لحاجة الناس ومصالحهم والمحافظة على سلامتهم، فيقوم البعض بالتعدي والصلاة في هذه الأماكن، مع وجود علامات تدل على منع الصلاة في هذه الأماكن، فيضطر رجال الأمن قطع صلاتهم لتعديهم على هذه الأماكن.
11- تخصيص مكاتب للإرشاد ولإجابة السائلين، وللموظفين.

ومن المعلوم بأن المسجد الحرام موقوف للصلاة وللطواف والسعي، والمسجد النبوي وما يدخل في بنائه موقوف للصلاة، وبالتالي لا يجوز استخدامهما إلا لما فيه مصلحة للموقوف عليه، وقد رأت الرئاسة أهمية وجود هذه المكاتب لخدمة المصلين والمعتمرين والزائرين، ولتسهل مهمة الموظفين لمتابعة العمل.

وأكد فضيلته أن هنالك مسائل مستجدة
كما أن هناك مسائل مستجدة تحتاج لمزيد بحث، كالمصليات في الأبراج القريبة هل تتبع للمسجد الحرام عند وقفها، وهل تأخذ أحكام المسجد الحرام والمسجد النبوي بعد توقيفها، وحكم الاعتكاف فيها، ومسألة من يرى الكعبة ولا يرى الصفوف هل يصلي مع الإمام، والاعتكاف في المسعى أو في الساحات الخارجية، واستخدام كهرباء المسجد لشحن الجوالات، وما يتعلق بحجز سفر الإفطار، وبيعها.

القسم الرابع: مسائل متعلقة بإجابة السائلين للمعتمرين والحجاج والزائرين.
من الأمور المهمة التي توليها رئاسة شؤون الحرمين إجابة السائلين من الحجاج والمعتمرين والزوار والمصلين، وهي أسئلة فردية، فوفرت أماكن خاصة في الحرمين لاستقبالهم والإجابة عن أسئلتهم.

الأمور التي ينبغي للمجيب عن السائلين مراعاتها.

• أن يراعي تنوع جنسيات السائلين وأحوالهم وعاداتهم والمذاهب الفقهية في بلدانهم.
• أن لا يستعجل في الإنكار على من فعل أمرا يخالف العرف في البلد، فربما يكون في بلده عرفا، أو الإنكار عليه في مسألة فقهية يسوغ فيها الخلاف.

• إذا لاحظ المجيب على السائل أي مخالفة عقدية في لباسه أو في كلامه فعليه أن ينبهه على مخالفته باللين والموعظة الحسنة حتى يقبل منه.
• أن يتحقق من بلد السائل ومعرفة عاداته قبل الإجابة.

• أن تكون الإجابات في الحرمين موحدة وعلى نسق واحد حسب القواعد والأصول الفقهية حتى لا يتشتت السائل.

• أن يكون المجيب على السائلين في الحرمين متابعا للمسائل المستجدة خاصة في النوازل التي تخص الحرمين والحج والعمرة.

• أن لا يتردد بقول لا أعلم عن السؤال الذي لا يعرفه أو يشك في إجابته.
• الصبر على السائلين ومراعاة أحوالهم وطبائعهم، وضعف فهم بعضهم.

أمثلة لمسائل يحتاجها المجيب على السائلين:

1- الوضوء بماء زمزم المعد للشرب مع وجود الزحام.

2- استخدام أكواب البلاستيك لغير ما وضعت له مثل شرب القهوة.

3- أخذ الأكواب البلاستيكية واستخدامها خارج المسجد.

4- أخذ الكراسي والمصاحف واستخدامها خارج المسجد وإرجاعها.

5- إجراء العقود في المسجد، مثل استئجار العربات، والطوافة.

6- البيع والشراء عن طريق الجوال في المسجد لغير المعتكف.

7- البيع والشراء للمعتكف.

8- تسديد الفواتير في المسجد.

9- شراء منفعة متعلقة بالعبادة: شراء الكرسي، أو العربية، شراء السجادة.

10- التعاقد لتسميع القرآن والتعليم.

11- التعاقد لخدمته في المسجد.

12- حجز المكان بالمال.

13- الدخول بالنعال للمسجد والصلاة والطواف بها.

14- سجود الشخص على ظهر الذي أمامه عند الزحام.

15- البول في المسجد في كأس أو في علبه للحاجة.

16- حكم مرور الرجل والمرأة بين يدي المصلي.

17- الانحراف عن عين الكعبة في الصلاة داخل المسجد الحرام.

18- الطواف بغير طهارة.

19- الطواف والإمام يصلي لمن لم يجد مكانا للصلاة.

20- صلاة الرجال خلف النساء.

القسم الخامس: مسائل تعرض من خلال الدروس والمحاضرات في الحرمين.

وتكون الإجابة عنها أمام الحضور للدرس أو عبر النقل المباشر والتسجيل، وبالتالي فإن على الملقي للدرس أو المحاضرة أن ينتقي الأسئلة المناسب عرضها على الحضور ولا يترتب عليها إشكال، والأسئلة إما مسائل متعلقة بالدرس أو المحاضرة، وهذه يجيب عليها المحاضر حسب معرفته واجتهاده، أو مسائل يسأل عنها الحضور وهي قريبة من الأسئلة التي يسأل عنها في إجابة السائلين، إلا أنه يسمع الإجابة عليها جميع الحضور، فيراعى مثل هذا الأمر، فينطبق عليها ما ذكرناه في القسم الرابع من الأمور التي ينبغي مراعاتها.

كما تحدث معالي الشيخ الأستاذ الدكتور فهد بن سعد الماجد الأمين العام لهيئة كبار العلماء ، عن منهج النبي -صلى الله عليه وسلم- وتطبيقه في الحرمين الشريفين.
قال فيها: أما بعد: فلأجل استيضاح هذا المنهج قرأت ما جمعه ابن القيم -رحمه الله- في كتابه " أعلام الموقعين" حيث جمع جملة من فتاوى النبي -صلى الله عليه وسلم- وصنفها على الأبواب ، ثم قمتُ بتسجيل ما ظهر لي من نقاط توضح شيئاً من منهجه عليه الصلاة والسلام في الفتوى، ومن ثم يجدر بمن يتولى الإفتاء العناية بها؛ لا سيما في الحرمين الشريفين لتنوع المستفتين، ولخصوصية مسائل الحج والعمرة والزيارة .

وزاد فضيلته أن ابن تيمية -رحمه الله-: قال " وعلم المناسك أدق ما في العبادات " ، ولذلك قد تشتبه بعض المسائل على السائل، فيسأل عن موضوع وهو يريد آخر، وقد تشتبه على المفتي فيظن السائل يسأل عن نقطة وهو يريد أخرى .

وأوضح أنه من هنا نشأت الحاجة إلى العناية بمنهج النبي صلى الله عليه وسلم في الفتوى؛ لأنه يضبط للمفتي طريقة الفتوى، قال تعالى ﴿ لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾ [الأحزاب: 21].

وذكر فضيلته عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما: أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يقول في خطبته: " أما بعد، فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة " [ أخرجه مسلم 867 ] .

وأضاف قد سجَّلتُ قرابة ثلاثين نقطة كلّها تبين جوانب من منهجه عليه الصلاة والسلام في الفتوى؛ إلا أنني في هذه الورقة سأختار عدداً منها، مما أراه تمس الحاجة إليه في إفتاء السائلين في الحرمين الشريفين:
1/ فمن أوائل هذه النقاط التي ينبغي للمفتي أن يرشد إليها السائل: الحرص على إقامة العبادة كما شرعها الله .
قال عليه الصلاة والسلام: " صلوا كما رأيتموني أصلي " [أخرجه البخاري من حديث مالك بن الحويرث رضي الله عنه برقم 631 ] .

فهذا في شأن الصلاة، وفي شأن الحج يقول جابر رضي الله عنه كما في صحيح مسلم: (1297): رأيت النبيَّ صلى الله عليه وسلم يرمي على راحلته يوم النحر ويقول: " لتأخذوا مناسككم فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه "
وفي ضوء ذلك: ينبغي للمفتي أن يوضح للسائل ما هو واجب وما هو مستحب؛ لأنه ليس كل ما فعله النبي عليه الصلاة والسلام ــ سواء كان ذلك في شأن الصلاة أو في شأن الحج أو غيرهما من العبادات ــ هو من الواجبات؛ كالاستفتاح ورفع اليدين مع التكبير هذا في الصلاة، وكاستلام الحجر الأسود، والاضطباع والرمل في الطواف وغير ذلك .

2/ ومن منهج النبيِّ ــ عليه الصلاة والسلام ــ في الفتوى: البيان .

بمعنى أن تكون الفتوى واضحة لا إشكال فيها، وهذا يدخل في أصل عام هو: بلاغ النبي صلى الله عليه وسلم للرسالة البلاغ المبين، كما قال تعالى ﴿ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ ۖ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ۚ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ﴾ [المائدة: 67].

قال ابن سعدي -رحمه الله-: "ويدخل في هذا كل أمر تلقته الأمة عنه صلى الله عليه وسلم: من العقائد والأعمال والأقوال والأحكام الشرعية والمطالب الإلهية، فبلَّغ أكمل تبليغ، ودعا وأنذر وبشر ويسَّر، وعلَّم الجهال الأميين حتى صاروا من العلماء الربانيين" [تفسير السعدي ص239].

ومن حرص النبي عليه الصلاة والسلام على بيان الفتوى أنه ربما سلك طريقة البيان الفعلي المؤيد بالبيان القولي كما في حديث بُريدة بن الحصيب -رضي الله عنه- عندما سُئل النبي عليه الصلاة والسلام عن أوقات الصلوات، فقال النبي ــ عليه الصلاة والسلام ــ للسائل " صلِّ معنا هذين " يعني اليومين . فصلى في اليوم الأول الصلوات في أول وقتها، ثم صلى في اليوم الثاني الصلوات في آخر وقتها، ثم قال: " أين السائل عن وقت الصلاة ؟ " فقال الرجل: أنا يا رسول الله، فقال: " وقت صلاتكم بين ما رأيتم " [والحديث بتمامه في صحيح مسلم 1391] .

قال النووي -رحمه الله-: وفيه ــ يعني الحديث ــ البيان بالفعل فإنه أبلغ في الإيضاح، والفعل تعم فائدته السائل وغيره [شرح صحيح مسلم 5/184 ] .
لذلك: ينبغي للمفتي أن يسلك كل الطرق التي تؤدي إلى إيضاح فتواه، ومن ذلك: أن يتأنى في حديثه، وأن يعيد عند الحاجة إلى الإعادة، وأن يتأكد من فهم المستفتي لفتواه؛ لا سيما ومسائل الحج والعمرة يقع فيها الإشكال والاشتباه، ومن ذلك ما تعنى به رئاسة شؤون الحرمين من توفير الفتوى بلغات مختلفة، فإن هذا يدخل في هذا الأصل من البلاغ والبيان والإيضاح .

3/ ومن منهج النبيِّ ــ عليه الصلاة والسلام ــ في الفتوى: أن يُصدِّر الجواب بأهمية السؤال إذا كان كذلك .
روى معاذ بن جبل رضي الله عنه، قال: قلتُ: يا رسول الله، أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني من النار، قال: " لقد سألتني عن عظيم، وإنه ليسير على من يسره الله عليه: تعبد الله ولا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت " [ الحديث رواه الترمذي 2621 وابن ماجه 3973].
وتصدير الجواب بإيضاح أهمية السؤال يحفز السائل لمعرفة الجواب، ويجعله ــ فيما بعد ــ أكثر اهتمامًا بتطبيقه إن كان فعلاً، والابتعاد عنه إن كان تركًا .

مثاله: لو سأل السائل عن عمل مخل لا يتناسب وقدسية المكان، فلا شك أن المعصية محرمة في كل مكان، ولكنها في الحرم أشنع،ولذلك قال تعالى ﴿وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ [الحج: 25] فهنا يناسب أن يصدِّر جوابه بتفخيم هذا الأمر وتعظيمه حتى تنشأ الرهبة من فعل المسؤول عنه .

4/ ومن منهج النبيِّ ــ صلى الله عليه وسلم ــ في الفتوى: " التنبيه على المقصد الشرعي " وهذه نقطة مهمة جداً؛ لأن إعمالها في الفتوى تدل المستفتي على تعبد الله تعالى بهذه الشرائع، وتذكيره بذلك .

فإن المقصد الشرعي العام من وضع الشريعة، إخراج المكلَّف عن داعية هواه، حتى يكون عبداً لله اختياراً كما هو عبدٌ لله اضطراراً .[الموافقات: 318] .

مثال ذلك: قول النبي صلى الله عليه وسلم: " إنما جعل الطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله " [أخرجه الإمام أحمد 24557 وأبو داود 1888] .

وعكس ذلك: إذا لم يكن المسؤول عنه يحقق مقصداً شرعياً .

مثاله: ما رواه عقبة بن عامر رضي الله عنه، قال: قلت: يا رسول الله، إنَّ أختي نذرت أن تمشي إلى البيت حافية غير مختمرة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " إنَّ الله لا يصنع بشقاء أختك شيئاً فلتركب ولتختمر " [الحديث عند الترمذي (1544) والنسائي: (3846) وهو عند ابي داود بلفظ مقارب: (3303) وأصله في الصحيحين بلفظ: " لتمشي ولتركب " البخاري (1866) ومسلم: (4250)] .

فهذا النذر لا يحقق مقصداً شرعياً، بل إنه يتعارض مع المقاصد الشرعية، فهو أولاً: يتعارض مع المقصد العام الذي هو تحقيق العبادة، فإن هذا العمل ــ في حقيقته ــ ليس عبادة، فالمشي حافياً لم يأذن الله تعالى بالتعبد به، وترك الخمار من المرأة معصية .

وهو ثانياً: يتعارض مع رفع الحرج الذي هو من مقاصد هذه الشريعة، فإن الله وضع هذه الشريعة حنيفية سمحة سهلة، والشارع لم يقصد إلى التكليف بالشاق والإعنات فيه، قال تعالى ﴿ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ﴾ [المائدة: 6] قال تعالى ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾ [البقرة: 286] وإلى ذلك نبَّه النبي صلى الله عليه وسلم بوصفه لهذا العمل بـ: " الشقاء " .

5/ ومما لاحظته في منهج النبيِّ ــ صلى الله عليه وسلم ــ في الفتوى: أنه لتقريب حكم المسألة للسائل، وقناعته به، فإنه يذكر النظائر التي تماثل المسؤول عنه في الحكم، والتي هي متقررة عند السائل، ليبين له أن الحكم متماثل، وهذا مما نعدُّه من محاسن طريقة النبي صلى الله عليه وسلم في الفتوى ، مثال ذلك: ما رواه عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: هششتُ فقبَّلت وأنا صائم، فقلت: يا رسول الله، صنعت اليوم أمراً عظيمًا، قبَّلت وأنا صائم، قال: " أرأيت لو مضمضت من الماء وأنت صائم ؟ " قلت: لا بأس به. قال: " فمه " [أبو داود: 2385] .

فهنا بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم: أنَّ نسبة القبلة التي هي وسيلة إلى الوطء، كنسبة وضع الماء في الفم الذي هو وسيلة إلى شربه، فكما أنَّ هذا الأمر لا يضر فكذلك الآخر . [أعلام الموقعين: 1/16] .

6/ ومن منهج النبيِّ ــ عليه الصلاة والسلام ــ في الفتوى: أنه يقرن الحكم بعلته، أو يشير إليها إذا وجد لذلك مناسبة، وذلك ــ والله أعلم ــ أن المقصود لم يكن ــ فقط ــ بيان حكم المسألة المسؤول عنها فحسب، بل تفهيم الناس لهذا الدين، وتعليمهم إياه، والقياس على المسألة المنصوص عليها .

مثال ذلك: أنَّ سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- سئل عن البيضاء بالسُّلت، فقال سعد للسائل: أيهما أفضل ؟ قال: البيضاء . قال: فنهاه عن ذلك، وقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل عن شراء التمر بالرطب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أينقص الرطب إذا يبس ؟ " قالوا: نعم . فنهاه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك . [أبو داود 3359 والترمذي 1225 والنسائي 4549 وابن ماجه 2264 ] .

والبيضاء: الشعير كما في رواية، والسُّلت: ضرب من الشعير لا قشر له يكون في الحجاز [تحفه الاحوذي: 4/349 – 350].

وبيان علة الحكم يختلف بحسب السائلين وأحوالهم، والمفتي بفهمه وعقله ومعرفته لأحوال السائلين يقدِّر المناسب في ذلك.
7/ ومن المنهج النبوي في الفتوى: مراعاة سد الذرائع .

والمقصود بالذريعة هنا: التوسل بما هو مصلحة إلى مفسدة . [إعلام الموقعين 4/379 ] .

ولذلك على المفتي أن يكون حاذقاً بما تؤدي إليه فتواه علق ابن القيم -رحمه الله- على قول النبي صلى الله عليه وسلم: " إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه " قيل: يا رسول الله، وكيف يلعن الرجل والديه ؟ قال: يسبُّ الرجل أبا الرجل، فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه [البخاري 5973 ومسلم 263 ].

فقال: هو صريح في اعتبار الذرائع، وطلب الشرع لسدِّها . [إعلام الموقعين: 3764 ] .

8/ كذلك من طريقة النبيِّ ــ عليه الصلاة والسلام ــ في الفتوى أن يدل المستفتي على المخرج من مسألته، وذلك مثل ما روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه قال: جاء بلال بتمر برني، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من أين هذا ؟ " فقال بلال: تمر كان عندنا ردي، فبعت منه صاعين بصاع، لِنُطْعِم النبي صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله عند ذلك: " أوّه ! عين الربا، لا تفعل، ولكن إذا أردت أن تشتري التمر فبعه ببيع آخر، ثم اشتر به " [البخاري 2312 ومسلم 4083].

وإيجاد المخرج الصحيح، أو البديل الصحيح، هو من تمام الفتوى ومن محاسنها، لا سيما في مسائل المناسك، فقد يواجه الناسك بعض الإشكالات التي يحتاج فيها إلى الفقه الذي ييسر عليه أداء شعائره وفق ما شرعه الله .

9/ قرن الفتوى بالترغيب أو الترهيب .

والنبي عليه الصلاة والسلام يستعمل ذلك عند وجود مناسبته .
مثال الترغيب:
عن ثوبان رضي الله عنه، أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن أحبِّ الأعمال إلى الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: عليك بكثرة السجود لله، فإنك لا تسجد لله سجدة إلا رفعك الله بها درجة، وحطَّ عنك خطيئة [مسلم 1093].
مثال الترهيب:

عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله: أيُّ الظلم أعظم ؟ قال: " ذراع من الأرض ينتقصه من حق أخيه، فليست حصاة من الأرض أخذها إلا طُوِّقها يوم القيامة إلى قعر الأرض، ولا يعلم قعرها إلا الذي خلقها " ( أحمد 3767 ) .

واشتمال الفتوى على الترغيب أو الترهيب المبني على دليل صحيح؛ مما يعين المستفتي على الامتثال في جانب الفعل أو الترك.

ويقرب من ذلك أن يُذكر الحجاج والمعتمرون بالحرص على أداء المناسك كما سَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم وعدم التهاون بذلك؛ وأن يستشعروا أن ذلك من تعظيم حرمات الله، قال تعالى ﴿ذَٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ﴾ [الحج: 30].

قال مجاهد: الحرمة: مكة والحج والعمرة، وما نهى الله عنه من معاصيه كلها .

10/ وفي بعض فتاوى النبيِّ ــ عليه الصلاة والسلام ــ تجده يدعو للمستفتي، وفي ذلك إدخال الطمأنينة على قلب المستفتي، وتسكين روعه .

فعن ابن عباس رضي الله عنه: أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم، قد ظاهر من امرأته فوقع عليها، فقال: يا رسول الله، إني ظاهرت من امرأتي فوقعت عليها قبل أن أكفِّر فقال: " ما حملك على ذلك يرحمك الله " قال: رأيت خلخالها في ضوء القمر، قال: " فلا تقربها حتى تفعل ما أمرك الله " [أبو داود 2221].

والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
IMG 20220531 104732 795IMG 20220531 104730 818IMG 20220531 104725 641IMG 20220531 104723 281IMG 20220531 104708 436IMG 20220531 104706 237IMG 20220531 104652 289IMG 20220531 104646 550
قراءة 1608 مرات