أمّ المسلمين اليوم لصلاة الجمعة في المسجد النبوي إمام وخطيب المسجد النبوي فضيلة الشيخ الدكتور عبدالمحسن القاسم فتحدث في خطبته الأولى عن سبب خلق الله للإنس والجن فقال: جعل الله الحياة الدنيا دارا لابتلاء العباد واختبارهم، يقطعون مراحلها سائرين إلى دار البقاء، فهي
مزرعة العاملين، وشوق العابدين، {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلً} ، فمن
أحسن العمل فاز واستحق الثواب، ومن أساء وقصر خسر واستحق العقاب، والغاية التي من أجلها
خلق الله الجن والإنس في هذه الحياة: أن يعبدوه وحده دون سواه، وقد أعانهم على هذه الغاية بما نصب لهم من الشواهد في أنفسهم وفيما حولهم، وبما أرسل إليهم من الرسل، وأنزل عليهم من الكتب ؛ فقامت عليهم الحجة، واستبانت لهم المحجة، وضرب لكل عبد أجلا، وحد لكل مخلوق حدا، وكتب له في علمه عمرا، فعمر العبد في هذه الدنيا هو محل عمله وكدحه إلى ربه قبل أن يلاقيه {يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ}.
ثم تحدث فضيلته عن انقضاء يوم العبد في الدنيا فقال: وكل عام ينقضي من عمر العبد -بل كل يوم من أيامه- فيه تذكرة بأن لكل بداية نهاية، وأن لكل
أجل كتابا، ولكل فاتحة ختاما، ولكل بنيان تماما، وفي طلوع فجر العام الجديد ما يذكر النفس بأن الفرصة لا تزال حاضرة، وأن الأمل لائح، والرجاء قائم، والعاقل الموفق من يحصي على نفسه نتيجة
عمله، وتمرة عمره، كما يحصي أرباح تجارته وخسارته، فالعمر هو رأس مال كل مخلوق، وعدته الصحة وسلامة القوى، وأكثر الناس مغبون فيهما، قال النبي صلى الله عليه وسلم: « نعمتان مغبون فيهم كثير من الناس: الصحة والفراغ » رواه البخاري، والربح في الدنيا بحسن العمل، ودوام الاستعداد لانقضاء الأجل.
وابن آدم يؤمل طول البقاء، ويحرص على الدنيا وما فيها من الأموال والمتاع، ويشغله ما هو فيه من
النعم عن تذكر قرب العاقبة، ودنو النهاية قال الرسول صلى الله عليه وسلم: « يهرم ابن ادم وتشيب منه اثنتان: الحرص على المال، والحرص على العمر» متفق عليه.
وتحدث فضيلته عن من عرف حقيقة الدنيا واتعض من ظهور الشيب فقال : ومن أعظم الفقه لمن عرف حقيقة الدنيا وسرعة انقضائها: أن يتخير الأنفع له في كل أمر، والأكمل من كل شأن، فلا يبذل وقته إلا فيما هو أكمل فائدة، وأحسن عائدة، فيتخير من الفضائل أعلاها، ومن الصالحات أسناها، ومن القربات أجلها، والعاقل لا يرضى لنفسه ثمنا دون الجنة، فيحرص على ما يضاعف أجره، ويحط وزره، ومن لم يكن ملازماً للطاعات والحسنات فليكن مفارقاً للمعاصي والسيئات، على أن من لم يزدد بالإحسان؛ فحاله
إلى نقصان، ومن لم يتقدم بالخيرات؛ تأخر بالسيئات.
ومن طال به العمر حتى لاح الشيب في عارضيه فقد جاءه النذير بقرب الأجل، قال تعالى: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ ۖ} قال البخاري رحمه الله: «النذير الشيب، وأعمار هذه
الأمة ما بين الستين والسبعين، ومن بلغ الستين فقد انقطع عذره بطول المهلة»، قال النبي صلى الله عليه
وسلم: « أعذر الله إلى امرئ -أي: أزال عذره- أخر أجله، حتى بلغه ستين سنة » رواه البخاري.
ولهذا أرشد النبي صلى الله عليه وسلم إلى اغتنام الحياة وما فيها من الشباب والقوة قبل فقدها،
والعمل في حال الفراغ والغنى قبل نزول أضدادها، قال الرسول صلى الله عليه وسلم لرجل وهو يعظه:
««اغتنم خمسا قبل خمس:شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك،وحياتك قبل موتك» أخرجه الحاكم.
وبين فضيلته أعظم مايضيع العبد سدى فقال: ومن أعظم ما تذهب به أيام العام سدى إضاعة الأوقات من غير عمارة الآخرة، قال ابن القيم رحمه
الله: «أبغض الخلق إلى الله البطال الذي لا في شغل الدنيا ولا في سعي الآخرة»، ومن لم يحفظ وقته فاته الانتفاع به، وخير ما تعمر به الأوقات: الازدياد من العلم النافع في الدين والدنيا، وقراءة القرآن، وذكر الله طرفي النهار، والكسب الحلال، والإحسان إلى الخلق والانتصاب لقضاء حوائجهم.
واختتم فضيلته خطبته الأولى بتحذير المسلمين من وساوس الشيطان فقال: والعبد في هذه الدنيا مبتلى بشيطان يوسوس له، ونفس تأمره بالسوء، وشهوات تقطع الطريق عليه، فلا غنى له عن ملازمة التوبة، فإنها وظيفة زمانها العمر كله،{وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } وهي عبادة جليلة يحبها الله من عباده ويرضاها لهم،{إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ } والعبد قريب من المعصية والغفلة، والخطأ من لوازم البشر مكتوب عليهم، والنقص الذي يوجب اللوم
هو ترك التوبة والإصرار على الذنوب؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: «كل ابن آدم خطاء، فخير الخطائين التوابون» رواه أحمد، ومن واقع السيئة فليمحها بكثرة الاستغفار والازدياد من الحسنات، قال تعالى:{إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} .
وأعظم وازع يدفع إلى الاعتبار، وأبلغ رادع يدعو إلى الإدكار: تذكر الموت، والاتعاظ بكثرته في الأقربين والأبعدين، لاسيما في هذه الأزمان التي ظهرت فيها الأدواء، وأخاف الناس فشؤ الوباء بعد الوباء، وكثر في الناس من يموت فجأة، ويرحل بغتة، فحري بالعبد أن يستعد لما هنالك، ويديم الفكر في أسباب النجاة من المهالك.
وتحدث فضيلته في خطبته الثانية عن شهر محرم وفضله فقال: فد أظلكم شهر الله المحرم، أضافه الله إلى نفسه لأن تحريمه من الله لا من غيره، فهو أحد الأشهر الحرم التي حرمها الله في كتابه، ونهى عن ظلم الأنفس فيها بالمعاصي والذنوب، {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ۚ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ ۚ}, قال ابن عباس رضي الله عنهما: «الذنب فيهن أعظم،والعمل الصالح والأجر أعظم».
واختتم فضيلته خطبته الثانية بتذكير الناس بفضل صيام يوم عاشوراء فقال: وكثرة الثطوع بالصيام في هذا الشهر فعلن مسنون، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «أفضل الصيام، بعد رمضان، شهر الله المحرم، وأفضل الصلاة، بعد الفريضة، صلاه الليل» رواه مسلم، وأفضل ما يتحرى من أيامه بالصيام: يوم عاشوراء؟؛ فقد صامه النبي صلى الله عليه وسلم وأمر بصيامه، «فهو يوم أنجى الله فيه موسى وقومه، وأغرق فرعون وقومه، فصامه موسى شكرا لربه» متفق عليه.
والأكمل أن يصام معه اليوم الذي قبله، فيصوم التاسع والعاشر، قال النبي صلى الله عليه وسلم: « لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع » رواه مسلم.
وليس لفاتحة العام مزية في الشرع، ولم يرد فيه فضل ولا خصيصة، وتخصيصه بعبادة بدنية أو مالية أو غيرها إحداث في الدين، وتقدم بين يدي الشرع العظيم.