أمّ المسلمين اليوم لصلاة الجمعة في المسجد النبوي إمام وخطيب المسجد النبوي فضيلة الشيخ الدكتور عبدالباري الثبيتي فتحدث في خطبته الأولى عن التأمل في خلق الله للإنسان فقال: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً} أية في كتاب الله رسمت معالم مسيرة الإنسان في الحياة، ومراحل تنقله فيها ، ضعف ثم قوة ثم ضعف ، طفولة ثم
شباب ثم شيبة، نرى هذه المراحل فيمن حولنا، ونبصرها في أنفسنا، وفي كل المراحل يلازم الإنسان ضعف دائم لا ينفك عنه ولا يغادر مسيرته ، فهو لا يدرك مآلات الأمور ، ولا يضمن استقرار حياته ساعة من نهار ، ولا يعرف ماذا سيحدث غدا .
أولى هذه المراحل حين يكون فيها وليدا في المهد، لا يقوى على القيام بشؤون نفسه ، وفهم محيطه ، ضعيف في بدنه وسمعه وبصره وعقله ، ثم يمده الله بالقوة شيئا فشيئا، يهيئ أسبابها ويرسى بنيانها، وهو سبحانه القادر على دوامها ، قال تعالى:{وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ ۙ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}.
ومن تأمل حال الضعف في مرحلة الطفولة أيقن أنه يسير في الحياة برعاية الله وحفظه ومننه ، وكمال حكمته ورحمته وإحسانه وبره ولطفه. وأننا فقراء إليه في كل مراحل حياتنا { يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ ۖ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ }.
ثم تحدث فضيلته عن مرحلة الشباب فقال: وفي فترة نشوة القوة قد ينسى المرء هذه الحقيقة؛ فيشمخ بأنفه ، ويعتد بقوته ، ويتباهى بسطوته، ويمتلئ غطرسة وكبرياء.
{ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً} وهذه مرحلة الشباب، أعز مراحل العمر ، والتي تتسم بالحيوية والعزيمة ، وهي مصنع النجاحات والمؤمل أن صاحبها ينفض عن كاهله الكسل والخمول ، وينطلق
يشق العباب متوشحا همة تواقة للمعالي ، متخلقا بالترفع عن السفاسف والدنايا، يكرس شبابه في طلب العلم والعمل المثمر ، يبني عقله، وينمي فكره ، ويقوي إيمانه ، ويطيع ربه، يستثمر
مواطن قوته ، ومواسم قدرته ليلقى ربه وهو راض عنه ، ويصنع أثرا طيبا في مجتمعه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اغتنم خمسا قبل خمس،
شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وفراغك قبل شغلك، وغناك قبل فقرك، وحياتك قبل موتك).
واختتم فضيلته خطبته الأولى عن انقضاء القوة والشباب فقال: ومع تقلب الأحوال قد يفقد المسلم صورا من القوة مع انقضاء مراحلها، ثم قد ينعكس ذلك في تعامل الناس معه: فمن كان منطلق قوته حسن علاقته مع الله، وجاهه عند الله عز وجل،
والاستزادة من العلم والعمل؛ فإن قوته في ازدياد، ولن يضره صدود من صد ، وقد يهيئ الله له من السعادة والنعيم ما يكون أفضل مما فاته .
وهذه القوة تتجمل وتزدان بالاقتداء بأخلاق النبي صلى الله عليه وسلم من الرجولة، والعفة، وقوة الإرادة، وكظم الغيظ، وجهاد النفس والشيطان ،
والثبات، والصبر، والتفاؤل ، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (المؤمن القوي خير واحب إلى الله من المومن الضعيف وفي كل خير احرص على ما ينفعك، واستعن بالله، ولا تعجز وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله، وما شاء فعل فإن لو تفتح عمل الشيطان) ومن الضعف ضعف الهمة ، والاتصاف بسيء الأخلاق ، والجبن والكسل، والتفريط والإفراط ، والحسد وسوء الظن، والتجسس والكذب ، والغيبة والنميمة.
وحال القوة من أعظم النعم التي يجب على المسلم الحفاظ عليها واستعمالها في مرضاة الله، مستحضرا أن الشكر يزيد القوة قوة ويحصنها من الزوال ، وأن كفران هذه النعمة سبب لسلبها وتبدد الأحوال .
وتحدث فضيلته في خطبته الثانية عن سبب تقوى نعمة القوى فقال: وتقوى نعمة القوة وتدوم بملازمة الاستغفار ، والمبادرة إلى التوبة عند الوقوع في الزلات ، قال الله تعالى على لسان نبيه هود عليه السلام {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَىٰ قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ }.
ولا ينسى المسلم وهو في مرحلة القوة من هو أقوى منه ، وهو الله سبحانه وتعالى، الذي وهبه القوة وأسبابها، قال الله تعالى : {فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً ۖ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً}.
ولئن غابت القوة عن المسلم ظاهريا، فإنه في حقيقة الأمر قوي إن استحضر معية الله القوي العزيز ، قال تعالى : {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ ۖ إِنَّهُ أَوَّابٌ }.