خطب وأم المصلين في المسجد النبوي فضيلة الشيخ الدكتور خالد بن سليمان المهنا إمام وخطيب المسجد النبوي الشريف.
وبعد أن حمد الله تعالى بدأ خطبته بقوله: عباد الله: الخير بحذافيره والسداد، والهداية وسبيل الرشاد، في اتباع نور الكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد، ولقد أنبأنا ربنا فيه عن صفة جليلة من أخص صفات المتقين، الذين هم أهل محبته وولايته وكرامته، هي خصلة لازمة لأهل الإيمان، بل هي خلاصة العلم والإيمان، والدليل عليه والبرهان، و المرقاة إلى رتبة الإحسان، قال تعالى ذكره: (وَلَقَدۡ ءَاتَيۡنَا مُوسَىٰ وَهَٰرُونَ ٱلۡفُرۡقَانَ وَضِيَآءٗ وَذِكۡرٗا لِّلۡمُتَّقِينَ (48) ٱلَّذِينَ يَخۡشَوۡنَ رَبَّهُم بِٱلۡغَيۡبِ وَهُم مِّنَ ٱلسَّاعَةِ مُشۡفِقُونَ).، وخشية الله تعالى هي الخوف منه المصاحب لتعظيمه والعلم به سبحانه، وهي خشية العالمين بأسمائه الحسنى ونعوت جلاله العلى، العالمين بأفعاله وأحكامه المتضمنة كمال الحكمة التي يحمد عليها جل وعلا، وخشية الله بالغيب هي خوف العبد من ربه في حال مغيبه عن أعين الناس حيث لا يراه إلا رب الناس، فهذه الخشية على الحقيقة، وهي الخشية الكاملة التي مدح الله أهلها فقال:( إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ).
وأكمل: أدلة الوحيين الشريفين دالة على أن خشية الله تعالى على نوعين متلازمين: - فأما الأولى: فخشية العبد من ربه أن يعاقبه على ذنب ارتكبه أو فرض لازم ضيعه، وثمرة هذه الخشية المحافظة على الحدود والحذر من المعاصي وأسبابها، قال الإمام التابعي الجليل سعيد بن جبير رحمه الله: (الخشية أن تخشى الله حتى تحول الخشية بينك وبين معصيتك). فمن قمع نفسه عن الذنب اتقاء عذاب الله وخوفاً من عقابه فقد خشي الله بالغيب، وكذلك من أذنب ذنباً ثم تنصل منه فتاب إلى ربه وأناب فهو من أهل هذه الخشية.
-ولتحصيل هذه الخشية أسباب يأخذ الموفقون المعظمون لربهم من أقربها نفعاً للعبد: مراقبة الله تعالى في الخواطر والخلوات، ومجاهدة النفس على ذلك، في استحضار لعلم الله بذات الصدور وماتخفيه، قال أمير المؤمنين وإمام الهدى عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (أوصيكم بالله إذا بالله خلوتم)، ومجاهدة النفس على ذلك سبب لحفظها في حركات الظواهر، فمن راقب الله في سره حرست جوارحه، وحفظه الله في حركاته في سره وعلانيته، ووفقه للوقوف عند حدوده.
-ومن سبل حقيق خشية الله تعالى: التعبد له سبحانه بالتفكر في معاني أسمائه الحسنى وصفاته العلا المتعلقة بعلمه وإحاطته ومراقبته، واستواء جهر العبد وإسراره عند علام الغيوب.
- وأما الدرجة الأخرى من خشية الله، فهي خشية العبد من ربه ألا يتقبل ما عمله من طاعته سبحانه، ولهذه الخشية مظاهر تنبيء عنها أحوال أولياء الله المتقين، أخبر عنها رب العالمين، وبينها المبلغ عنه الصادق الأمين، قال تعالى:( إِنَّ ٱلَّذِينَ هُم مِّنۡ خَشۡيَةِ رَبِّهِم مُّشۡفِقُونَ (57) وَٱلَّذِينَ هُم بِـَٔايَٰتِ رَبِّهِمۡ يُؤۡمِنُونَ (58) وَٱلَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمۡ لَا يُشۡرِكُونَ (59) وَٱلَّذِينَ يُؤۡتُونَ مَآ ءَاتَواْ وَّقُلُوبُهُمۡ وَجِلَةٌ أَنَّهُمۡ إِلَىٰ رَبِّهِمۡ رَٰجِعُونَ (60) أُوْلَٰٓئِكَ يُسَٰرِعُونَ فِي ٱلۡخَيۡرَٰتِ وَهُمۡ لَهَا سَٰبِقُونَ).، أي هؤلاء الذين هذه الصفات صفاتهم يبادرون في الأعمال الصالحة، ويطلبون الزلفة عند الله بطاعته، وهم الذين سبقت لهم من الله السعادة، وهم الذين جمعوا مع التصديق وتحقيق التوحيد خوفهم ألا ينجيهم ذلك من عذاب الله، قال الصحابي الجليل حبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما في معنى قوله سبحانه:( وَٱلَّذِينَ يُؤۡتُونَ مَآ ءَاتَواْ وَّقُلُوبُهُمۡ وَجِلَةٌ أَنَّهُمۡ إِلَىٰ رَبِّهِمۡ رَٰجِعُونَ)، المؤمن ينفق ماله ويتصدق وقلبه وجل أنه إلى ربه راجع، وقال التابعي الجليل الحسن البصري رحمه الله: عملوا والله بالطاعات واجتهدوا فيها وخافوا أن ترد عليهم، وقال رحمه الله: إن المؤمن جمع إحساناً وشفقة، وإن المنافق جمع إساءة وأمناً.، وذلك أن المؤمن يا عباد الله يعمل بطاعة مولاه غير مستيقن من أدائها على مراد الله إخلاصاً وإصابة واحتساباً، فهو خائف من تقصيره في إتمام شروط قبول العمل الصالح، وإنه ليعمل بطاعة الله وهو يشهد منته عليه إذ وفقه لأدائها، وهداه إليها، فليس منه شيء، ولا حول له ولا قوة إلا بربه.