أمّ إمام وخطيب المسجد النبوي فضيلة الدكتور عبد الباري الثبيتي المصلين بالمسجد النبوي الشريف واستهل فضيلته خطبته قائلا: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله؛ فهي زاد العبد وبها فلاحه في الدنيا والآخرة.
«مات فلان»؛ كلمة تتردد في كل وقت ،وأن، وتطرق الأسماع في كل حين؛ تغير مجرى الأحداث، وتشكل منعطفاً في الواقع، وصدمة في الحال؛ ففلان هذا كان قبل يروح ويجي، يحلم ويتمنى، ويأمل ويطيل الأمل، ويتقلب في دنياه وفي بيته بين أولاده وأسرته.
لقد كان يأمر وينهى، ويمشي في الأرض مرحاً؛ فإذا به قد أسلم الروح إلى باريها، وغدا جثة هامدة، البصر، لا يملك لنفسه شيئاً، ولا يقدر على شيء.
في هذه اللحظة لم يعد الموظف الكبير وصاحب السلطان العظيم؛ نزعت الألقاب وسقطت النياشين؛ خرج من منزله الواسع وقصره المنيف بلباس البياض، إلى حفرة يهال عليه التراب.
وحين ترى فلاناً مسجى جثة هامدة لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً؛ تتبين لك حقيقة ضعف الإنسان مهما تكبر، وعجزه مهما تعالى؛ فمن يرى نفسه الأرقى نسباً والأرفع حسباً والأكثر مالاً والمتغطرس والمتعالي؛ هذه نهاية قصته بالحياة الدنيا !!
يحتضر الإنسان؛ فيتحلق حوله أهله ويرون حاله ويرومون إنقاذه، ويطلبون الطبيب ولسان الحال: ولم أر الطبيب اليوم ينفعني؛ فهذا الأجل مكتوب، والأمر محتوم؛ بل تقف البشرية كلها عاجزة بما تملكه من علم وهي حريصة على الحياة أن تؤجل الأجل ساعة من نهار أو لحظة من زمان؛ إعجاز إلهي، وقدرة خالق.
متى الموت؟ وأين تقبض الروح؟ حجب ذلك كله في صحيفة الغيب.
لقد أصبح فلان في عداد الموتى؛ فهو لن يذهب غداً إلى وظيفته ولن يجلس على مكتبه! ولن يحتضن أطفاله ولن يلقى أحبته وأصدقاءه ! لقد طويت صحيفة أعماله وطويت معها آماله وأحلامه، وغدا المال مال الورثة! والبيت ضمن التركة! فالموت فاجأه بلا استئذان، وهذا حال كل إنسان. 
مات فلان؛ خبر يوقظ القلوب، ورسالة تذكير بالمآل المحتوم ؛ قال عمر رضي الله عنه: "كل يوم يقال مات فلان وفلان ولا بد من يوم يقال فيه مات عمر".
مات فلان؛ خبر مفجع؛ وهو أشد وقعاً وأوجع حالاً حين يتعلق الأمر بأحد والديك أو ولدك أو أخيك أو صديقك الحميم؛ والناس يتفاوتون في تحمل الصدمة عند تلقي الخبر على قدر إيمانهم، وبقدر رسوخ الإيمان يتحلى المرء بالصبر والاحتساب والرضا بقضاء الله وقدره .
إذا كان الأجل غيباً، وقد يكون اليوم أو غداً؛ وإن غداً لناظره لقريب؛ فإن أهل البصائر يعقدون العزم على الاستعداد بحسن الزاد يتفقد المرء ،عبادته، ويسبر مسار صلاحه ويراجع علاقته بخالقه؛ ويراجع كشف حسابه، ومسيرة عمله وصلاته، حقوق الآخرين عليه بر والديه صيامه زكاة ماله قراءة القرآن، موقفه من من المناهي والمحرمات. وفي الحديث يقول عليه الصلاة والسلام قال لي جبريل: يا محمد عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك ملاقيه» رواه البيهقي وحسنه الألباني.
سيحزن الأهل والأصحاب، وتبكي الزوجة والأولاد ألما على فراق فلان ومن طبيعة الحال والأحوال، ومع مرور الأيام والشهور؛ ستجف الدموع، وتختفي الأحزان، وتبقى الذكرى طيف من خيال؛ بل إنه ليصل، الحال كما أخبر رب العزة والجلال عن القيامة ذي الأهوال.
نرى هذه الحقيقة ماثلة للعيان في موت فلان حين يحمله على النعش أهله المحبون له، وأولاده المشفقون عليه، وبعد أن يوسد التراب؛ يرجع الجميع ولن يبقى معه بقبره سوى عمله؛ عمله الصالح رفيقه في قبره، ونعم المسكن لمن أحسن؛ يصور هذا المشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله : يتبع الميت ثلاثة، فيرجع اثنان ويبقى معه واحد : يتبعه أهله وماله وعمله، فيرجع أهله وماله، ويبقى عمله» رواه البخاري ومسلم.
واستهل فضيلته خطبته الثانية قائلا: بعد موت فلان؛ تنتشي الألسن بالحديث عن أثره وآثاره وحسناته وأخلاقه، الجار يثني على حسن جواره، والقريب يقدر صلته ،وإنفاقه والفقير يذكر صدقته وإحسانه.
يرحل أقوام وتبقى صحيفة أعمالهم ممتدة، وحسناتهم تتدفق وتتزايد؛ بوقف خالد، أو ولد صالح، أو علم في الأرض سائر ؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له» رواه مسلم.
إلا من ومنهم من إذا مات تثاقلت الألسن عن ذكر أثره ، ووصف عمله؛ لسوء خلقه، وشناعة عمله؛ بل قد يدعو عليه مظلوم من شدة ما وجد من ظلمه؛ فكم من حقوق سلبها؟ ومظالم اقترفها؟ أو عمل شائن خلده بعد موته؟ مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بجنازة فقال: «مستريح ومستراح منه، قالوا: يا رسول الله، ما المستريح والمستراح منه؟ قال : العبد المؤمن يستريح من نصب الدنيا وأذاها إلى رحمة الله، والعبد الفاجر يستريح منه العباد والبلاد، والشجر والدواب» رواه البخاري، وقال تعالى: لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ .
GWyXZw0WgAArnJQGWyXZwIXQAAKIRt


أمّ وخطب المصلين لصلاة الجمعة من المسجد الحرام معالي الشيخ الدكتور صالح بن عبدالله بن حميد.

واستهل خطبته قائلًا: إن للحق نورا، وللفضيلة جمالًا، والحكمةُ البالغةُ، والموعظةُ الحسنةُ حين تكون في كلماتٍ رصينة، وخطابٍ رفيق تُقْبِل عليها النفوس، وتأنس بها العقول؛ من حجة ظاهرة، وبرهان جلي، في رفق وأدب: دالةٍ على أن لكل مقام مقالًا، ولكل طبقة خطابًا.

أيها المسلمون: يقول أهل العلم: الاستقامة على الحق تكون في سلوكِ سبيلِ الهدى، وطيبِ الغذاء، والجدِّ في تحصيل التقوى، وملازمةِ الذكر، ولزومِ الشرع، وتعظيمِ حرمات المسلمين، ومن استقام باطنه استقامت أموره.

والخيرُ في خمس خصال: لباسِ التقوى، والثقةِ بالله، وكسبِ الحلال، وغنى النفس، وكفِّ الأذى، وأدوأُ الداء خلقٌ دنيء، ولسانٌ بذيء.

واعلموا رحمكم الله أن إمهال الله ليس إهمالا، فالعبد مُساءل ومجازى، ولا يتعظ إلا أهل الخوف والخشية، وكفى بالمرء علمًا أن يخشى الله، وكفى به جهلا أن يعجب بعمله.

وليحذر العبد الناصح لنفسه من خشوع الظاهر وفجور القلب، وليستح العبد أن يُصلح ما ظهر للخلق، ولا يُصْلحْ ما يعلمه الخالق جل وعلا (إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أعمالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم)، ومن أصلح سريرته أصلح الله علانيته، ومن ستر عورة أخيه ستر الله عورته، ومن تتبع عورة أخيه تتبع الله عورته ثم يفْضَحْه ولو في جوف بيته).

أيها المسلمون: والصدق يهدي إلى البر، والبر يهدي إلى الجنة، والكذب يهدي إلى الفجور، والفجور يهدي إلى النار، وصحبة الأشرار تورث سوء الظن بالأخيار، والحسد يُولِّد قلة الشفقة بالمسلمين، وبئس الزاد إلى المعاد العدوان على العباد.

ومِنْ ظُلْمِ العبد لنفسه أن يجد لنفسه عذراً في كل شيء ولا يعذر إخوانه في أي شيء، ولا يعتذر إلا القوي، ولا يسامح إلا الأشجع، ولا ينسى إلا الأسعد.

واعلموا – رحمكم الله – أن الخلق لا يذمون العبد إلا بمقدار ما جعل الله في قلوبهم، ومن خاف الله لم يضره أحد، ومن خاف غير الله لم ينفعه أحد، وعلى قدر حب العبد لربه يحبب إليه خلقه، وكلما زاد خوفه من ربه ألقى الله مهابته في عباده.

يا عبد الله: قُلْ الصدق، والزمْ الحق، واعمل الصواب، وسوف يرضى الناس ولو بعد حين، وهمُّ الدنيا ظلمة في القلب، وهمُّ الآخرة نور في القلب، والغضبُ عقابٌ يعاقب به المرء نفسَه والمخطئُ غيرُه، والصداقة خسارة إلا ما صافيت، والمال حسرة إلا ما واسيت، والمخالطة تخليط إلا ما داريت.

وليعلم العبد الصالح الناصح لنفسه أن اختيار الله خير له من اختياره لنفسه، فالعبد مدبَّر لا مدبِّر، وسخطه لا يغير القضاء، فليلزم طريق الرضا بالقضاء، والثبات يكون عند الابتلاء، أما في زمن العافية فالثابتون كثير، والرضا حين البلاء، أما في حال طيب العيش فالراضون كثير.

ومن أطاع مطامعه استعبدته، ومن زادت مطامعه هان عليه دينه، والأطماع تقطع أعناق الرجال، وليُعلم – عباد الله - أن سبب الخلاف بين الناس إما مقصود لم يفهم أو مفهوم لم يقصد.

معاشر الإخوة: ومن تعامل مع أدوات التواصلَ فْليُذَكِّر بفريضة، ولْيدُلَّ على سنة، ولينبِّه على خطأ، ولينصحْ باحتساب، وليحتسبْ الأجر والثواب، وليحرصْ على جمع الكلمة، وإحسان الظن، وليحبَّ لأخيه ما يحب لنفسه، وليظنَّ بأخيه الخير، وليتق شر ظنون نفسه.

وليحذر أن يكون الناصح لنفسه في هذه الأدوات ممن يتجول بدلاء فارغة، ويجعل عقله مستباحا لمتطفلي هذه الأدوات الثرثارين بما لا ينفع.

فيالسعادة عبد رزقه الله توبة تحفظه من الإصرار، وخوفاً يقيه من التسويف، ورجاءً يقصر عنده الأمل، وعَمَر وقته بذكر ربه في توحيد خالص وإخلاص صادق، وكلُّ ساقٍ سيُسقى بما سقى، ومن ذُكِّر فلم ينزجر فهو محروم، ومن دخل فيما لا يعنيه فهو الملوم، واتقوا يوما يقول فيه العبد.

وذكر معاليه في خطبته الثانية: احرص – حفظك الله – على أن تكون ممن إذا علم رفق، وإذا سُئل بذل، وكن عونا للمسترشد، وحليف الصدق للمستنصح، ومستودع البر للمسترفد، قريبَ الرضا، بعيدَ الهمة، الحقُّ مبتغاك، والحياءُ سترُك، والورعُ سربالُك، في بصائرَ من النور تبصرها، وحقائقَ من العلم تأخذ بها، وإذا زللت فارجع، وإذا أخطأت فاعتذر، وإذا أذنبت فأقلع، وإذا جهلت فاسأل، وإذا غضبت فأمسك، واعلم أن لك الفضل ما لم تر فضلك، فإذا رأيت فضلك فلا فضل لك.
IMG 20240906 134128 168IMG 20240906 134127 880IMG 20240906 134127 829IMG 20240906 134127 562
الصفحة 2 من 2