ألقى فضيلة إمام وخطيب المسجد الحرام الشيخ الدكتور سعود بن إبراهيم الشريم خطبة الجمعة مبتدئا بحمد الله والثناء عليه .
واستهل فضيلته الخطبة بتذكير المرء في حياته ومعاشه أنه يتقلب بين خير وشر، ورخاء وشظف، وفتح وإغلاق، وعسر ويسر، ومد وجزر، هكذا هي الحياة تتقلب أيامها ولا تدوم على حال، فإن من سرته حال ساءته أحوال، ومن عاش لم يخل من مصيبة، وقلّ ما ينفك عن عجيبة، ينظر إلى أمسه فيراه قد فات فلا يستطيع رده، ولا يشعر بلذته التي مضت، وينسي ألم وخزته التي انقضت، وينظر إلى غده فيراه مجهولا فهو ليس على ثقة منه، لأنه لا يدري ما الله قاض له فيه، فلا يرى بين يديه إلا يومه الذي يتنفس فيه ويسمع ويبصر، فصارت محصلته من ذلك أن أمسه أجل، ويومه عمل، ومستقبله أمل، وهو في مثل هذه الحال أحوج ما يكون إلى أن يستحضر في نفسه وصية النبي صلى الله عليه وسلم لابن عمر حين قال له: "كن في الدنيا كأنك غريبٌ، أو عابر سبيل"، ويستحضر في نفسه أيضا وصية ابن عمر بعد تنفيذه وصية النبي صلى الله عليه وسلم له حيث قال قولة العارف المجرب: "إذا أمسيتَ فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحتَ فلا تنتظر الـمساء، وخُذْ مِن صحتك لِمرَضِك، ومن حياتك لِمَوتك" رواهما البخاري, مضيفاً فضيلته أن الدنيا دار الممر لا دار المقر، والناس فيها صنفان: من باع نفسه فأوبقها، ومن ابتاع نفسه فأعتقها (يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه).
وأوضح فضيلته أن الدنيا مسرح الحياة وعرصاتها، جعلها الله ذلولا للناس ليمشوا في مناكبها ويأكلوا من رزقه ولا يسرفوا فيها، ولا يجعلوها أكبر همهم، ولا مبلغ علمهم بالتنافس فيها والاقتتال عليها، والتياثهم بما خشيه عليهم نبي الرحمة والهدى، فإنه لما قَدِمَ أَبُو عُبَيْدَةَ إلى المدينة بِمَال الجزية سَمِعَتِ الأَنْصَارُ بِقُدُومِهِ ، فَوَافَتْهُ صَلاَةَ الصُّبْحِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا انْصَرَفَ تَعَرَّضُوا لَهُ ، فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ رَآهُمْ ، وَقَالَ: أَظُنُّكُمْ سَمِعْتُمْ بِقُدُومِ أَبِي عُبَيْدَةَ ، وَأَنَّهُ جَاءَ بِشَيْءٍ قَالُوا : أَجَلْ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، قَالَ : فَأَبْشِرُوا وَأَمِّلُوا مَا يَسُرُّكُمْ ، فَوَاللَّهِ مَا الفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ ، وَلَكِنْ أَخْشَى عَلَيْكُمْ أَنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا ، كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ ، فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا ، وَتُلْهِيَكُمْ كَمَا أَلْهَتْهُمْ" رواه البخاري ومسلم.
ونوه فضيلة الدكتور الشريم أن من تأمل حقيقة الدنيا وجد أنها مطعوم ومشروب وملبوس ومركوب ومشموم، فأشرف المطعومات العسل وهو مجاج نحلة صغيرة، وأشرف المشروبات الماء ويستوي فيه البر والفاجر، وأشرف الملبوسات الحرير وهو نسج دودة حقيرة، وأشرف المركوبات الفرس وعليه يقتل صناديد الرجال، وأشرف المشمومات المسك وهو دم في سر غزال.
وبين فضيلة إمام وخطيب الجمعة الشيخ الشريم أن في الصحابة من الأغنياء الأثرياء، وأن الثراء والغنى المستعمل في طاعة الله لم يكن مانعا بعض الصحابة أن يكونوا من العشرة المبشرين بالجنة، فإن أبا بكر رضي الله عنه منهم وهو غني، وهو الذي قال عنه المصطفى صلى الله عليه وسلم: "مَا نَفَعَنِي مَالٌ قَطُّ، مَا نَفَعَنِي مَالُ أَبِي بَكْرٍ" رواه أحمد، ثم إن عثمان رضي الله عنه من العشرة المبشرين بالجنة وهو غني، وسعد بن أبي وقاص منهم وهو غني، والزبير بن العوام منهم وهو غني، وعبدالرحمن بن عوف منهم وهو غني، وطلحة بن عبيد الله منهم وهو غني، بل إن ثروته قد بلغت آنذاك ثلاثَمائة مليونِ درهم، لكن أولئك أجمعين قد اتخذوا دنياهم في أيديهم، واتخذوا آخرتهم في قلوبهم، ابتغوا فيما آتاهم الله الدار الآخرة ولم ينسوا نصيبهم من الدنيا وأحسنوا كما أحسن الله إليهم.
ولفت فضيلته إلى أن الدنيا دار صدقٍ لمن صدقها، ودار نجاةٍ لمن فهم عنها، ودار غنىً لمن تزود منها، مهبط وحي الله، ومصلى ملائكته، ومساجد أنبيائه، ومتاجر أوليائه، ربحوا فيها الرحمة، واكتسبوا فيها الجنة ,قال لقمان لابنه: يا بني بع دنياك بآخرتك تربحهما جميعاً ولا تبع آخرتك بدنياك تخسرهما جميعاً, وقال حذيفة بن اليمان: ليس خياركم الذين تركوا الدنيا للآخرة، ولا الذين تركوا الآخرة للدنيا، ولكن خياركم الذين أخذوا من هذه وهذه.
واختتم فضيلة الدكتور الشريم بتهنئة العبد الملمّ الذي عرف الله فأطاعه، وعرف الشيطان فعصاه، وعرف الحق فاتبعه، وعرف الباطل فاتقاه، وعرف الدنيا فلم تلهه، وعرف الآخرة فلم تفتنه (تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين).