وبعد أن حمد الله عز وجل بدأ خطبته قائلاً: أرسل الله رسوله محمداً بالهدى ودين الحق، على حين فترة من الرسل ودروس من الكتب، وتحريف
للكلم وتبديل للشرائع، فأشرقت برسالته الأرض بعد ظلماتها؛ وتألفت بها القلوب بعد شتاتها، وهدى الله به الخلائق، وأوضح به الطريق، فأقام به الملة العوجاء، وأوضح به المحجة البيضاء، وجعل الهدى والفلاح في اتباعه، والضلال والشقاء في معصيته.
أرسله بأكمل رسالاته، وأفضل كتبه، وخاتمة شرائعه حجة على الخلق، وقطعاً للعذر، جاء من عند ربه بنور الوحي الذي يجلي كل ظلام، وبه حياة الأرواح قال تعالى: (أومن كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها).
وتفاصيل الهداية إلى الحق والخير لا تعرف إلا من الوحي، قال تعالى: (وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نوراً نهدي به من نشاء من عبادنا) والله سبحانه وتعالى أنزل على رسوله وحيين، وأوجب على عباده الإيمان بهما والعمل بما فيهما، فأقواله عليه الصلاة والسلام وأفعاله وحي من الله، فسنته وحي مثل القرآن، نزل عليه بها الروح الأمين جبريل عليه السلام، قال تعالى: (وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم).، والحكمة هي السنة باتفاق السلف، وقد عصم الله نبيه في أقواله وأفعاله، وحفظه من كيد أعدائه، حتى بلغ الرسالة أتم البلاغ.
وأكمل فضيلته: لا يبلغ العبد حقيقة الإيمان إلا إذا ملأ اليقين قلبه بتصديق النبي صلى الله عليه وسلم في كل ما جاء به، ولم يتردد في الإذعان لشيء من أوامره، ولم يجد في نفسه حرجاً من التسليم بما أخبر به، ويجب على العبد أن يكون تبعاً للنبي صلى الله عليه وسلم في جميع أموره .
وأضاف: الكتاب والسنة قرينان في الاحتجاج بهما، من فرّق بينهما وزعم أن القرآن يكفيه في أمر الدين فهو كمن يؤمن ببعض الكتاب ويكفر ببعض، فاتباع أحدهما اتباع للآخر، ولا يختلف الكتاب والرسول أبداً كما لا يخالف الكتاب بعضه بعضاً.
ومن أعرض عن سنة النبي صلى الله عليه وسلم أو ترفّع عن الأخذ بها، أو شكك في كلامه وما جاء به، أو اعترض عليه بالعقل أو الخيال أو الهوى تحسّر يوم القيامة على ما عملت يداه.
قال سفيان بن عيينة رحمه الله: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الميزان الأكبر، فعليه نعرض الأشياء، على خُلُقِه وسيرته وهديه، فما وافقها فهو الحق، وما خالفها فهو الباطل).
ولا يُخرج الناس من ظلمات الحيرة، ولا يأخذ بأيديهم عند الفتن وكثرة الاختلاف بين الناس إلا التمسك بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، ولزومها في جميع الأحوال .
واختتم فضيلته الخطبة بقوله: وتوفي صلى الله عليه وسلم وما طائر يقلب جناحيه في السماء إلا ذكر للأمة منه علماً، وعلمهم آداب النوم والقيام والقعود، والأكل والشرب، حتى التخلي، ووصف لهم العرش، والكرسي، والسماء، والملائكة، والجن، والنار، والجنة، ويوم القيامة وما فيه حتى كأنه رأي عين.