أمّ المصلين في خطبة الجمعة بالمسجد الحرام فضيلة إمام وخطيب المسجد الحرام الشيخ الدكتور بندر بليلة وتحدث فضيلته في خطبته الأولى عن خلافة الأرض لأدم عليه السلام فقال: لمَّا اقتضتْ حِكمةُ أحكم الحاكمين أنْ يجعل في هذه الأرض خليفةً، كبُر ذلك على ملائكتِه لكنَّهم سُرعانَ ما استجابوا لأمر ربِّهم مُطيعين مُسلِّمين؛ فسجدوا كلُّهم أجمعونَ لآدمَ عليه السلام، وأظهرَ إبليسُ مخبوءَ الحسدِ، والكِبْر، فأبى السُّجودَ لهذا المخلوق الطِّينيِّ{وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا} وادَّعى لنفسِه الخيريَّة والأفضليَّة:{قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ ۖ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ} ومنذ ذلك الحينِ نصبَ عدوُّ اللهِ لبني آدمَ عَداوةَ الأبدِ، ورفع لواءَ الغَواية والفِتنةِ، وأخذ على نفسه العَهدَ أن يتربَّص بهم ويكيدَ لهم.
وتحدث فضيلته عن عداوة الشيطان لبني أدم فقال : قد جعل من الآدميِّ عدُوًّا له في كلِّ حالٍ، منذ الولادة حتى الموت، لا يدعُ مجالا لإيذائه وإغوائه إلا ركِبه، يتلوُّن له في شتَّى الحِيَل، ويمكرُ به في صورٍ من التَّلبيس، في دأَبٍ لا ينقطع، وعزمٍ لا يخمُد، وطَمَعٍ لا يخبو!
فأوَّلُ ما يُحاوله من الأذى والكَيد حينَ ولادة الإنسان وخروجه من بطن أمِّه؛ أنْ يطعَنَ في جنبيه بإصبعه؛ فيستهلُّ صارخًا من ذلك؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما من بني آدمَ مولودٌ إلا يمَسُّه الشَّيطانُ حينَ يولَد؛ فيستهلُّ صارخًا من مَسِّ الشَّيطانِ غيرَ مريمَ وابنِها».
ومن خفيِّ كيدِه ومكره: ما يلقيه إليه من الوَساوسِ المخوِّفة وما يبثُّه في رُوعِه من الخواطرِ المُزعجة: في اليقظة والمنامِ ، وعن أبي قَتادةَ رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم : «الرُّؤيا الصَّالحةُ من الله، والحُلُمُ من الشَّيطانِ، فإذا حلَمَ أحدُكم حُلُمًا يخافه؛ فلْيبصُقْ عن يساره، ولْيتعوَّذْ بالله من شرِّها؛ فإنَّها لا تضرُّه». أخرجه الشيخان.
وإذا أرادَ الإنسانُ أنْ يُصلِّيَ؛ أفرطَ الشَّيطانُ عليه بكيدِه وأذاه؛ وذلك أنَّ الصَّلاةَ شعارُ المؤمنِ، وعنوانُ صلاحِه وفلاحِه، وأشرفُ ما فيها السُّجودُ الذي هو غايةُ الذُّلِّ لله تبارك وتعالى، ذلك الذُّلُّ الذي أباهُ إبليسُ في أوَّل أمره، فأرغمه اللهُ وكتب عليه الصَّغارَ والحَسرة، وجعل سجودَ ابنِ آدمَ لربِّه مثارًا لندمه؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إذا قرأ ابنُ آدمَ السَّجدةَ، فسجدَ، اعتزل الشَّيطانُ يبكي يقول: يا ويلي! أُمِرَ ابنُ آدمَ بالسُّجودِ، فسَجد، فله الجنَّة، وأُمِرْتُ بالسُّجودِ، فأبيتُ، فلي النَّار» أخرجه مسلمٌ.
لهذا؛ كانَ له مع الصَّلاة شأنٌ عجيبٌ؛ فإنَّه يحاوِلُ ابتداءً صدَّ الإنسانِ عن فعلها بتثقيلها عليه وصَرْفه عنها بصوارفِ اللَّهو والمعصية.
واختتم فضيلته خطبته الأولى عن إثارة الشيطان النزاعات والعداوات فقال: وللشَّيطانِ سعيٌ دؤوبٌ في إثارة النِّزاعات وإذكاءِ نار العداوات بين الأحبَّة خاصَّةً الزَّوجين؛ لأنَّ في الأُلفةِ ووفور المودَّة مرضاةَ الربِّ، وصلاحَ الشَّأنِ، ولأنَّ صلاحَ حال الزَّوجين على طاعة الله مؤذنٌ بالفلاحِ، فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إنَّ إبليسَ يضعُ عرشَه على الماءِ، ثمَّ يبعثُ سراياهُ، فأدناهم منه منزلةً أعظمُهم فتنةً! يجيءُ أحدُهم فيقول: فعلتُ كذا وكذا! فيقول: ما صنعت شيئا. ثم يجيءُ أحدهم فيقول: ما تركتُه حتَّى فرَّقتُ بينه وبين امرأتِه. قال: فيُدنيه منه. ويقول: نِعْمَ أنتَ! فيَلْتزِمُه (أي يُعانِقُه)»! أخرجه مسلمٌ.
ومن خبيثِ كيده: أنَّه إذا عجَز عن الإفسادِ الأعظمِ، لم ييأسْ ممَّا دونه، بل هو ماضٍ فيه، حريصٌ عليه؛ فإذا عجَز عن إيقاع أهلِ الإيمانِ في الشرك الذي هو أعظمُ مَفسَدةٍ، حرَص على أن يحرِّشَ بينهم بالعداوة والبغضاءِ الحالقةِ للدِّين؛ فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «إنَّ الشَّيطانَ قد أَيِسَ أنْ يعبُده المصلُّون في جزيرة العرب، ولكن في التَّحريش بينهم» أخرجه مسلمٌ.
ومن عَجيبِ كيدِه ومكرِه: تحسينُ القبيحِ، وتقبيحُ الحسنِ، فيزيِّنُ للإنسانِ فعلَ المعصية ويُزخرفُها في عينيه، حتَّى يراها سلوةً لنفسه وإطلاقًا لبدنه، ويقبِّح عنده فعل الطَّاعات ويثقِّلَها حتَّى يراها عذابًا لروحه ولِجامًا لبدنِه، فيُريَه العِزَّة والجَسارة في العصيان، والذُّلَّ والهوانَ في الطَّاعة، تلبيسًا وخداعًا.
وتحدث فضيلته في خطبته الثانية عن سبيل الخلاص من كيد الشيطان فقال: ولا سبيلَ إلى الخَلاصِ من الكَيد الشَّيطانيِّ والمكر الإبليسيِّ إلا بجملة أمورٍ، منها: الاستعاذةُ بالله من شرِّه؛ فإنَّ من استعاذ بالله أعاذه، ومداومةُ الذِّكر المشروع مطلقًا ومقيَّدًا؛ فإنَّ كيدَه ضعيفٌ مردودٌ إلى الوسوسة، وإنَّ الوسوسة لتُفَلُّ بذكر الله تعالى؛ لأنَّ الذَّاكر محفوفٌ بمعيَّة الله، وإذا ذُكر اللهُ خنَس الشيطانُ، وصغُر وذَلَّ، ولذلك سمِّي: الوَسواسَ الخنَّاس.
والحذرُ من اتباع الشهوات؛ فإنَّه موكَّلٌ بتزيينها وتسويلها، فإذا حاذرها المرء سلم من كيده وشره، وإذا واقعها فليسرع إلى محو آثارها بالاستغفار والتوبة وتجديد الطَّاعة؛ فإنَّ ذلك يغيظه ويرغمه ويدفع شرَّه.