خطب وأم المصلين في المسجد النبوي فضيلة الشيخ الدكتور عبدالباري بن عواض الثبيتي إمام وخطيب المسجد النبوي الشريف.
وبعد أن حمد الله بدأ خطبته قائلاً: في سير الأنبياء دروس وعبر، وسيرة خليل الله إبراهيم عليه السلام لها ارتباط وثيق في بعض صفحاتها بموسم الحج وبيت الله الحرام؛ جاء إبراهيم عليه السلام بابنه إسماعيل وأمه حتى وضعهما في المكان الذي بنى به البيت من بعد؛ عند دوحة فوق زمزم في أعلى المسجد، لا يبدو فيه أي مظهر من مظاهر الحياة، ولا بشر ولا ماء، ووضع عندهما جرابًا فيه تمر، وسقاء من ماء؛ ثم قفل إبراهيم راجعاً من حيث قدم؛ فتبعته أم إسماعيل فقالت يا إبراهيم: أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه أنيس ولا شيء؟! تردد ذلك مراراً وهو لا يلتفت إليها، حتى قالت: آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم، قالت: إذن لا يضيعنا.
وأكمل فضيلته: موقف مذهل وحدث عجيب، وسمو ثبات في ساعة ابتلاء لا يبلغه إلا العظماء؛ العظماء بإيمانهم ويقينهم وتوكلهم، كلمات قصيرة المبنى، عميقة المدلول والمعنى ، آلله أمرك بهذا؟ إذن لا يضيعنا؛ تقول هذا في الوقت الذي توقن فيه أن زوجها سيذهب ويتركها في صحراء مقفرة لا أنيس فيها ولا شيء؛ ومن قرأ القصة غير مؤمن؛ فإنه يراها ضرباً من الخيال، لا تستوعبها العقول؛ لكن القلوب المفعمة بالإيمان تستوعب أن من توكل على الله حق التوكل فإن الله يحفظه ويكفيه ويحميه ويرزقه.
وأضاف: لقد لقيت أم إسماعيل جزاء حسن ظنها بربها وبولدها؛ بل وللناس كلهم؛ فنبع ماء زمزم بين يديها؛ هذا الماء الذي صار طعام طعم، وشفاء سقم، وخلد الله ذكرها في العالمين؛ فكلما سعى الناس بين الصفا والمروة تعبداً لله وتنسكاً؛ تلوح لهم هذه القصة، تكريما لها ورفعة لشأنها.
ولك أن تتأمل موقف أم إسماعيل وثقتها بربها؛ لم يتسلل الخوف إلى قلبها رغم المكان الموحش الخالي من الطعام والشراب والبشر؛ فإن قارنت ذلك بنا اليوم وحولنا كل شيء؛ تعجبت أنه يساورنا الحزن والقلق خوفاً على الزرق والأولاد والمستقبل؛ خوفا من المرض، من الغد، من المجهول؛ وأساس ذلك ضعف اليقين والتوكل على الله.
أمر الله خليله إبراهيم عليه السلام ببناء البيت فجعل ابنه إسماعيل يأتي بالحجارة وإبراهيم يبني، فكان بناء الكعبة مجرد حجارة لا تضر ولا تنفع؛ وإنما استمدت شرعيتها من شرع الله وأمره بتعظيم البيت وبالطواف حوله تأسياً بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ولولا أن الله شرع تقبيل الحجر الأسود كما علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ما فعلناه؛ لأن الحجر لا يضر ولا ينفع ولا هو معبود.، قال عمر رضي الله عنه: (إنِّي لَأَعْلَمُ أَنَّكَ حَجَرٌ لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ وَلَوْلَا أَنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَبِّلُكَ مَا قَبَّلْتُكَ).، وهذا شأن كلما شرع زيارته من مساجد وقبور وبقاع وأماكن الغزوات، لا يتجاوز فيها الحد الذي شرعت لأجله زيارتها من حصول العظة والعبرة والتذكرة؛ فهي لا تعدوا أن تكون حجارة وتراباً لا ضر فيها ولا نفع.
وذكر فضيلته: بناء بيت الله الحرام؛ عمل عظيم، ومنصب رفيع، وعمل صالح، وشرف لا يدانيه شرف ناله إبراهيم وابنه إسماعيل عليهما السلام؛ وهما في أثناء ذلك وبعده يلهجان بالدعاء: {ربنا تقبل منا إنك أنت سميع العليم}.، تضرع وانكسار مع أداء أجل الأعمال الصالحة؛ وهذا حال أهل الإيمان والتقوى لا يدلون بأعمالهم على الله تبارك وتعالى، ولا يمنون بطاعتهم وكأنهم يحسنون إلى ربهم بحج أو عمرة أو صلاة أو صدقة،بل ينبغي على المؤمن أن يتقال كل عمل يبذله في سبيل مرضات الله، فمدار الأعمال الصالحة على القبول، وهذا مقصود العمل وغايته؛ ومن الغبن أن يعمل الإنسان أعمالاً صالحة فيسمح للرياء أن يتسلل إليها ويقتلع أجرها وثوابها من جذورها ويجعلها هباء منثورا.
وقال فضيلته : لقد نالت مكة وبيت الله الحرام نصيباً وافراً من دعوات خليل الله إبراهيم عليه السلام؛ رفعت شأنها، وأعلت مقامها وهيئتها لأمر عظيم، (رَّبَّنَآ إِنِّيٓ أَسۡكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيۡرِ ذِي زَرۡعٍ عِندَ بَيۡتِكَ ٱلۡمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ فَٱجۡعَلۡ أَفۡـِٔدَةٗ مِّنَ ٱلنَّاسِ تَهۡوِيٓ إِلَيۡهِمۡ وَٱرۡزُقۡهُم مِّنَ ٱلثَّمَرَٰتِ لَعَلَّهُمۡ يَشۡكُرُونَ).
دعوة تجاوزت السحب والأفلاك وأقطار السماوات، واستقرت عند مليك مقتدر؛ فهذه الأفئدة تهفوا قبل
الأجساد، والأشواق تسبق الخطوات؛ تتقاطر الجموع من كل حدب وصوب بحب يهون كل مشقة، ولذة تذيب كل عقبة، في ملتقى إسلامي لا نظير له، الفوارق تلاشت، والعنصريات ذابت، والأجناس تلاقت، والألسن على تنوع لغاتها تلهج بلغة واحدة لرب واحد: لبيك اللهم لبيك.
وحتى يحقق هذا الجمع المبارك مقصده ويؤدي نسكه؛ دعا النبي الكريم إبراهيم الخليل ربه:(رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ). فاستجاب الله دعاءه فجعل مكة مكاناً يأنس إليه الناس ويأمنون من الخوف والآفات.
خليل الله إبراهيم عليه السلام صال وجال في أرض الله الواسعة يدعو إلى التوحيد، يرسخ العقيدة، حاور عليه السلام النمرود الذي ادعى الألوهية عندما قال: {أنا أحيي وأميت}، وحاور أباه المشرك وتلطف معه في العبارة فكان في ندائه له يقول: {يا أبت}، وحاور قومه المشركين ونوع معهم الخطاب، وتنزل معهم في الجدال ليثبت فيهم وحدانية الله، ولقد فصل القرآن الكريم تلك الحوارات آيات تتلى وقصص تروى ودروساً تستقى.
نستلهم من دعوة إبراهيم عليه السلام، ما أكد عليه القرآن أن الحوار هو المسلك الأسمى في دعوة غير المسلمين؛ ولو قام المسلمون القادرون منهم بنشر رسالة الإسلام وكشف الحجب عنها لكان له شأن آخر؛ فالإسلام دين الفطرة، والأدلة على وحدانية الله مبثوثة في الكتاب المقروء والمنظور، والحجج بينة، والبراهين ناصعة جلية؛ لكنها تتطلب رجالاً صادقين أهل علم يحملونها ويحاورون بأسلوب رصين وحكمة رشيدة كما حاور إبراهيم عليه السلام بلغة هادئة وألفاظ بليغة وبراهين علمية عقلية.
حاور إبراهيم عليه السلام زوجه وابنه إسماعيل ليؤكد لنا أن الحوار منهج حياة، وهو الغذاء المتجدد الذي يقوي الوثاق بين الزوج وزوجته، وقاعدة بناء علاقة الوالدين مع أبنائهما، وغياب لغة الحوار الهادئ العلمي اللطيف أفرز مظاهر منها؛ تمرد الأولاد، وزيادة نسب الطلاق والخلع؛ ولعل هذا الواقع يستحث أهل الحل والعقد والفكر إلى تصدر المشهد، وحمل زمام المبادرة لحماية المجتمع والوطن والأمة من آثار التفكك الأسري. دين إبراهيم عليه السلام ديناً للأنبياء جميعاً الحنيفية السمحاء، والتوحيد الخالص، قال الله عز وجل: (مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يهوديًّا وَلاَ نصرانيًّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِين).