أمّ المصلين في صلاة و خطبة الجمعة بالمسجد الحرام فضيلة إمام وخطيب المسجد الحرام الشيخ الدكتور فيصل غزاوي وتحدث فضيلته في خطبته الأولى عن ترك العادات السيئة وما يجده من مشقة فقال: وإنما يجد المشقة والكلفة في ترك المألوفات والعوائد السيئة من تركها لغير الله، أما من تركها صادقاً مخلصاً من قلبه لله ابتغاء مرضاة الله فإنه لا يجد في تركها مشقة إلا أول مرة وفي بداية الأمر ليُمتحن أصادق هو في تركها أم كاذب فإن صبر على تلك المشقة قليلا تحولت لذة وذاق صاحبها حلاوة الطاعة، وكلما ازدادت الرغبة في المحرم وتاقت النفس إلى فعله وكثرت الدواعي فيه عظم الأجر في تركه وتضاعفت المثوبة في مجاهدة النفس على الخلاص منه، وما أعظم جزاء من تاب وأناب وترك المعاصي لله وتنزه عن فعل القبائح قال تعالى: (إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَٰئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رحيما)، وقال صلى الله عليه وسلم: ( يقولُ اللَّهُ: إذا أرادَ عَبْدِي أنْ يَعْمَلَ سَيِّئَةً، فلا تَكْتُبُوها عليه حتَّى يَعْمَلَها، فإنْ عَمِلَها فاكْتُبُوها بمِثْلِها، وإنْ تَرَكَها مِن أجْلِي فاكْتُبُوها له حَسَنَةً..) متفق عليه.
أيها الإخوة: لقد تظاهرت نصوص الشرع على أن من ترك شيئا لله تعالى وآثر ما ندب إليه وحض عليه عوضه الله خيراً منه، فعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إنَّكَ لن تدَعَ شيئًا اتِّقاءَ اللَّهِ، جَلَّ وعَزَّ، إلَّا أعطاكَ اللَّهُ خيرًا منه) رواه أحمد وفي رواية له: (إنك لَن تدَع شيئًا للهِ عزَّ وجلَّ إلا بدلك اللهُ به ما هو خيرٌ لكَ منه).
وتحدث فضيلته عن شأن المؤمن في ماتركه لله فقال: شأن المؤمن أن يلزم التقوى ويؤثر الآخرة الباقية على الدنيا الفانية، فيتركَ ما يتركه ابتغاء رضوان الله ورغبة في أن يعوضه الله ما هو أجلُّ منه، يؤيد ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (مَن سَرَّه أن يَسقِيَه اللهُ الخمرَ في الآخرةِ؛ فَلْيتركْهَا في الدُّنيا، ومَن سَرَّه أن يَكْسوَهُ اللهُ الحريرَ في الآخرةِ؛ فَلْيتركْه في الدُّنيا) رواه الطبراني، وقوله صلى الله عليه وسلم: (أنا زعيمٌ ببيتِ في رَبَضِ الجنةِ لمَن تَرَكَ المِراءَ وإن كان مُحِقًّا، وببيتِ في وسطِ الجنةِ لمَن تركَ الكذبَ وإن كان مازحًا) رواه أبوداود، وقوله صلى الله عليه وسلم: (مَنْ كَظَمَ غَيْظًا وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنْفِذَهُ، دَعَاهُ اللهُ سُبحَانَهُ وَتَعَالى عَلَى رُؤُوسِ الْخَلَائِقِ يَوْمَ الْقِيامَةِ حَتَّى يُخَيِّرَهُ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ مَا شَاءَ) رواه أبو داود والترمذي، وقوله صلى الله عليه وسلم: (مَنْ تَرَكَ اللِّبَاسَ تَوَاضُعًا لِلَّهِ وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَيْهِ دَعَاهُ اللَّهُ يَوْمَ القِيَامَةِ عَلَى رُءُوسِ الْخَلَائِقِ حَتَّى يُخَيِّرَهُ مِنْ أَيِّ حُلَلِ الإِيمَانِ شَاءَ يَلْبَسُهَا) رواه الترمذي، فمِن سُننِ اللهِ تَعالَى وقواعد الشرع: أنَّ مَن ترك شيئًا للهِ عوضه الله خيرًا منه ولم يجد فقده.
فمن ترك الشرك بالله وامتنع عن صْرفِ أيِّ نوعٍ من العبادة لغير الله ووحد الله وَأناب إليه بعبادته وإخلاص الدين له اطمأن قلبه وانشرح صدره وسلم عقله واجتمع فكره وصفت نفسه وحسن مآله وكانت له البشرى في الدنيا والآخرة.
ومن صفات عباد الرحمن الاحترازُ عن الشرك والقتل والزنا والابتعادُ عن هذه الكبائر وأمهات المعاصي قال سبحانه: (وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَٰهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ...) وختم عز وجل صفات عباد الرحمن بقوله: (أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا).
واختتم فضيلته خطبته الأولى بنصح المسلمين بترك الأمور التي لاتفيدهم في دينه فقال : ومن ترك التشاؤم وسلم من الوساوس والاعتقادات السيئة اطمأن قلبه وقوى يقينه وتوكله على ربه.
ومن ترك التكالب على حطام الدنيا الفانية والانشغالَ بملذاتها العاجلة جمع الله له أمره وجعل غناه في قلبه وأتته الدنيا وهي راغمة.
ومن ترك ما اشتبه عليه حله ولم يتيقن جواز فعله من مطعم أو مشرب أو تجارة أو غير ذلك فقد اتقى الشبهات مخافة الوقوع في المحرمات وترك ما يَرِيبُه إلى ما لا يَرِيبُه واستبرأ لدينه وعرضه.
ومن ترك طلب الشهرة وحب الظهور أعلى الله شأنه ورفع ذكره ونشر فضله ورزقه مودة الناس.
ومن ترك مسألة الناس ورجاءَهم وإراقةَ ماءِ وجهه أمامهم وعلق رجاءه بالله دون سواه عوضه خيراً مما ترك فرزقه تحرر القلب وسعة النفس والاستغناء عن الخلق.
ومن ترك عقوق والديه وكان برا بهما وترك التقصير في حقهما وأحسن إليهما رضي الله عنه ويسر له أمره وكان بِره سببا في مغفرة ذنوبه ودخوله الجنة.
ومن ترك قطيعة أرحامه وصبر على جفائهم وأذاهم فواصلهم وتودد إليهم واتقى الله فيهم بسط الله له في رزقه وزاد له في عمره ولا يزال معه ظهيرٌ من الله ما دام على تلك الصلة.
ومن ترك صحبة السوء والرفقة السيئة عوضه الله أصحابا أبرارا وجلساء أخيارا يجد عندهم النفع والفائدة وينال من جراء مصاحبتهم ومعاشرتهم خيري الدنيا والآخرة.
ومن ترك الغش في البيع والشراء بورك له في تجارته وزادت ثقة الناس به وكثر إقبالهم على سلعته، والتاجر الأمين الصدوق المسلم مع النبيين والصديقين والشهداء يوم القيامة.
ومن ترك الربا ومعاملاته المختلفة وكَسْبَ الخبيثِ بارك الله له في رزقه وصار قنعاً وأغناه الله من واسع فضله ووجد الفلاح والسعادة والطمأنينة.
ومن ترك الاختلاس وسرقة المال خوفا من الله فتح الله عليه وأغناه بالحلال ورزقه من حيث لا يحتسب جزاء تركه أخذ ما لا يحل.
ومن ترك البخل وآثر الكرم والسخاء وواسى الناس بماله أحبوه واقترب من الله ومن الجنة ووُقِي شح نفسه وسلم من الهم والغم وضيق الصدر.
هذا والبخل بالعلم أسوأ أنواع البخل وأقبحه فمن ترك البخل بالعلم ولم يكتمه بل بثه ونشره وأفاد به الناس فعلّم الجاهل وأرشد السائل ونصح للغافل فله مثل أجور من انتفع بذلك، والجودُ بالعلم من أعلى مراتب الجود.
وقال فضيلته في خطبته الثانية بتذكير الناس ماكان قد تركه الأنبياء فقال: فإن لهذه القاعدة الجليلة (من ترك شيئا لله عوضه الله خيراً منه) دلائلَ وشواهدَ في القرآن الكريم منها ما ذكره الله عن بعض أنبيائه كإبراهيم عليه السلام لما اعتزل قومه وأباه وما يدعون من دون الله وهب له إسحاق ويعقوب والذرية الصالحة وكفاه، وسليمان عليه السلام لما ألهته الخيل عن ذكر ربه فأتلفها عوضه الله بأن سخر له الريح يسير على متنها حيث أراد.
ويوسف عليه السلام ترك معصية الله والوقوع في الفاحشة وقد تيسرت له أسبابها تركها خوفا من الله وإيثارا لما عند الله ولم يثأر لنفسه مما فعل إخوانه فنال السعادة والعزة والكرامة في الدارين.
وأهل الكهف لما اعتزلوا قومهم وتركوا ما يعبدون من دون الله وهب لهم من رحمته وهيأ لهم أسباب التوفيق والراحة وجعلهم هداية لمن بعدهم.
والمهاجرون الأولون الذين هجروا المحبوبات والمألوفات، من الديار والأهلين والأحباب والأموال تركوها لله وضَحَّوا بالغالي والنفيس من أجل نصرة الدين فأعاضهم الله العز والتمكين وملكهم مشارق الأرض ومغاربها.