التراث السمعي والبصري للمسجد الحرام يُعد أحد أهم الشواهد التي تُوثق لحظات عاشها الملايين من المسلمين على مر العصور، وعبر الصور والمشاهد البصرية القديمة، تظهر ملامح التطور العمراني للمسجد الحرام، وتوثق مراحل توسيعه وتحسين مرافقه لاستقبال الأعداد المتزايدة من الحجاج والمعتمرين، من الصور البانورامية التي تعرض مكة المكرمة في أواخر القرن التاسع عشر إلى مشاهد التوسعات السعودية، يشكل هذا التراث البصري مرجعًا تاريخيًا مهمًا.


0202
صحن المطاف في عهد الملك عبدالعزيز - رحمه الله - (1372هـ / 1953م)


تُظهر الصورة الملتقطة في عام 1372هـ واحدة من المراحل المهمة في تطوير المسجد الحرام، حيث تم إضافة أشرعة لحماية المصلين من حرارة الشمس، ويعد هذا التطوير جزءًا من توثيق تاريخي لمراحل مختلفة من توسعة وتحسين المسجد الحرام ومرافقه.






0101
صورة بانورامية لمكة المكرمة في عام 1297هـ (1881م)


توثق هذه الصورة التاريخية النادرة منظرًا شاملاً لمكة المكرمة، بما في ذلك المسجد الحرام وما يحيط به من المباني القديمة والمنازل المتراصة بين الجبال، تعتبر هذه الصورة من أهم الأعمال البصرية التي تعكس التركيبة العمرانية للمنطقة المركزية في مكة المكرمة في أواخر القرن التاسع عشر، قبل التوسعات والتطورات الحديثة.




0303.jpg
باب الكعبة المشرفة في عهد الملك عبدالعزيز -رحمه الله-


في عام 1363هـ / 1944م، أمر الملك عبدالعزيز آل سعود -رحمه الله- بصنع باب جديد للكعبة المشرفة، تم تركيبه في سنة 1366هـ / 1947م، هذه الصورة توثق الباب الذي صُنع في مكة المكرمة، ويُعد من أبرز المعالم التي أمر الملك المؤسس عبدالعزيز بتنفيذها.



0404.jpg
صورة للمسعى في حج عام 1374هـ (1955م)


في هذه الصورة، يظهر المسعى خلال فترة التوسعة السعودية الأولى، حيث تم إضافة سقف جديد لتوفير الحماية من أشعة الشمس والحرارة للحجاج الذين يؤدون السعي بين الصفا والمروة، هذه التوسعة كانت جزءًا من سلسلة إصلاحات تهدف لتحسين تجربة الحجاج والمعتمرين.



0505.jpg
الملك سعود بن عبدالعزيز -رحمه الله- يتفقد الحجر الأسود


تُظهر الصورة الملك سعود بن عبدالعزيز - رحمه الله - أثناء تفقده الحجر الأسود في عام 1375هـ / 1956م، حيث يظهر الحجر بدون طوق الفضة للمرة الأولى استعدادًا لوضع الطوق الجديد عليه.



0606.jpg
التوسعة السعودية الأولى للمسجد الحرام عام 1376هـ (1957م)


تُظهر هذه الصورة جزءًا من أعمال التوسعة التي تمت في عهد الملك سعود بن عبدالعزيز - رحمه الله -، حيث تم إنشاء سلالم رخامية متصلة بالشوارع الخارجية، مما سهل حركة الدخول والخروج من وإلى المسجد الحرام، تعد هذه التوسعة ضمن سلسلة من التوسعات التي شهدها المسجد خلال القرن العشرين، لتلبية احتياجات الأعداد المتزايدة من الحجاج والزوار.



0707.jpg
أعمال ترميم سقف الكعبة المشرفة في عهد الملك سعود -رحمه الله-


في عام 1377هـ / 1958م، تمت أعمال الترميم على سقف الكعبة المشرفة بإشراف الملك سعود بن عبدالعزيز - رحمه الله -، وفي هذه الصورة، يظهر العمال وهم يقومون بوضع العوارض والألواح الخشبية عليه لتقوية السقف وحمايته.



0808.png
ترميم جدران الكعبة من الخارج


تُظهر الصورة الفنيين والعمال أثناء ترميم جدران الكعبة المشرفة من الخارج سنة 1377هـ / 1958م.



0909.png
ستارة باب الكعبة في عهد الملك سعود -رحمه الله-


في سنة 1382هـ / 1962م، تم تصنيع ستارة جديدة لباب الكعبة المشرفة في مصنع الكسوة بمكة المكرمة، تُظهر الصورة ثاني ستارة تُصنع محليًا.



1010.png
باب الكعبة المشرفة في عهد الملك خالد -رحمه الله-


في عام 1399هـ، شهد المسجد الحرام تركيب باب جديد للكعبة المشرفة بأمر الملك خالد بن عبدالعزيز - رحمه الله -، تُظهر الصورة لحظة خروج الملك خالد من الكعبة المشرفة بعد إزاحة الستارة عن الباب الجديد.



11011.jpg
الملك خالد يطوف بالكعبة المشرفة


يظهر الملك خالد بن عبدالعزيز - رحمه الله - أثناء طوافه بالكعبة المشرفة، ويبدو في الخلفية ثوب الكعبة المزين بلفظ “الله جل جلاله” المكتوب بالخط المثنى.


12012.jpg
ستارة باب الكعبة عام 1396هـ


في عام 1396هـ / 1976م، صُنعت ستارة جديدة لباب الكعبة المشرفة في مصنع الكسوة بحي أم الجود بمكة المكرمة، تظهر الصورة التوثيقية هذه الستارة التي كانت تغطي باب الكعبة.


13013.jpg
الملك فهد بن عبدالعزيز-رحمه الله- يتابع صناعة باب الكعبة الجديد


تُظهر الصورة الملك فهد بن عبدالعزيز - رحمه الله - عندما كان وليًا للعهد، وهو يتابع عملية صناعة باب الكعبة المشرفة الجديد، يرافقه وزير الحج والأوقاف الشيخ عبدالوهاب عبدالواسع، حيث كان باب الكعبة الجديد جزءًا من سلسلة التحديثات التي شهدها الحرم.



14014.jpg

تُظهر الصورة الكعبة المشرفة، وسقيا زمزم والساحات المحيطة بصحن المطاف قبل التوسعات الحديثة.
 


15015مظلة المسعى قبل التوسعة السعودية


في هذه الصورة، يظهر المسعى القديم مغطى بمظلة لحماية الحجاج من الشمس قبل أن يشهد التوسعة السعودية، كانت هذه المظلة تحمي الساعين بين الصفا والمروة قبل أن يتم تحديث المكان بالكامل.


الأرشيف الصوتي للمسجد الحرام:
منذ إنشاء المكتبة الصوتية في المسجد الحرام عام 1407هـ، جُمعت آلاف التسجيلات التي توثق تلاوات قراء الحرم، وخطب الجمعة، والدروس الدينية، تعتبر هذه المكتبة جزءًا من التراث الروحي والسمعي للمسلمين حول العالم، ويجري العمل لتحويل هذه المواد إلى نسخ رقمية لضمان حفظها للأجيال القادمة.

معالجة المواد الصوتية في المسجد الحرام:
تخضع المواد الصوتية المسجلة لعمليات معالجة تقنية لتحسين جودتها، وذلك باستخدام برامج متقدمة تزيل التشويش وتحسن نقاء الصوت، تتم مراجعة المحتوى الصوتي من قبل لجنة علمية لضمان صحة المضمون وجودة التسجيل.




ملاحظة: تم إعداد هذا المحتوى بالاستناد إلى مجموعة من المصادر المتنوعة:
- دارة الملك عبدالعزيز
- الكعبة المشرفة في عهد الملك سعود بن عبدالعزيز آل سعود -رحمه الله-: دراسة تاريخية حضارية معمارية" - محمد بن حسين الموجان.
- "الكعبة المشرفة في عهد الملك خالد بن عبدالعزيز آل سعود -رحمه الله-: دراسة تاريخية حضارية معمارية" - محمد بن حسين الموجان.
- "الكعبة والكسوة" - أحمد عطار.
خطب وأم المصلين في المسجد النبوي فضيلة الشيخ الدكتور عبدالله بن عبدالرحمن البعيجان إمام وخطيب المسجد النبوي الشريف.

وبعد أن حمد الله تعالى بدأ خطبته قائلًا: الصلاة أعظم فريضة افترضها الله بعد التوحيد، فهي عمود الإسلام، والركن الثاني من أركانه العظام،قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ}؛ وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: « بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ، عَلَى أَنْ يُعْبَدَ اللهُ، وَيُكْفَرَ بِمَا دُونَهُ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَحَجِّ الْبَيْتِ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ».
وأكمل: الصلاة أول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة، فإن صلحت فقد أفلح ونجح ورجح عمله، وإن فسدت فقد خاب وخسر وضاع عمله، فعن أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "إِنَّ أَوَّلَ مَا يُحَاسَبُ بِهِ العَبْدُ يَوْمَ القِيَامَةِ مِنْ عَمَلِهِ صَلَاتُهُ، فَإِنْ صَلُحَتْ فَقَدْ أَفْلَحَ وَأَنْجَحَ، وَإِنْ فَسَدَتْ فَقَدْ خَابَ وَخَسِرَ، فَإِنْ انْتَقَصَ مِنْ فَرِيضَتِهِ شَيْءٌ، قَالَ الرَّبُّ عَزَّ وَجَلَّ لملائكته وهو أعلم: انْظُرُوا هَلْ لِعَبْدِي مِنْ تَطَوُّعٍ فَيُكَمَّلَ بِهَا مَا انْتَقَصَ مِنَ الفَرِيضَةِ، ثُمَّ يَكُونُ سَائِرُ عَمَلِهِ عَلَى ذَلِكَ ".

وأضاف فضيلته: لقد فرض الله على المسلمين خمس صلوات في اليوم والليلة، وحدد لها أوقاتًا معينة، قال تعالى: {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} أي واجبة في أوقات معلومة ومحددة، لا يجوز تأخيرها عن ذلك إلا لعذر شرعي.
فعن عُبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: أَشهَدُ أنِّي سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: "خمسُ صلواتٍ افتَرَضَهُنَّ اللهُ عز وجل، مَن أحسَنَ وُضوءَهُنَّ وصَلاَّهنّ لوقتِهنَّ وأتمَّ ركوعَهُنَّ وخُشوعَهُنَّ كانَ له على الله عَهدٌ أن يَغفِرَ له، ومن لم يَفعَل فليسَ له على الله عَهدٌ، إن شاءَ غَفَرَ له، وإن شاءَ عَذَّبَه".

وبيّن: قد حذر الله تعالى من تضييع وقت الصلاة بالتفريط والتهاون بها، واللهو والتغافل عنها، والتشاغل بغيرها، قال تعالى: { فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ} أي يغفلوا عنها حتى يذهب زمانها، ويفوت وقتها.
وأوضح فضيلته: الصلاة عمود الدين، وأوجب الواجبات، وأعظم العبادات، وأزكى القربات، ألا وإن من الواجب على الوالدين، ومن مسؤولياتهم تربية الأبناء وحث الأهل على المحافظة على الصلاة في وقتها، وأمرهم بها، ومراقبتهم وحضهم عليها، قال تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا}.
واختتم الخطبة بقوله: الصلاة هي وصية النبي صلى الله عليه وسلم التي حض عليها وهو في سكرات الموت يودع الدنيا، فكان آخر كلامه في الدنيا الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم، الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم، فعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: كَانَتْ عَامَّةُ وَصِيَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ حَضَرَهُ الْمَوْتُ: «الصَّلَاةَ الصلاة وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ الصَّلَاةَ الصلاة وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ» حَتَّى جَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُغَرْغِرُ بِهَا صَدْرُهُ، وَمَا يَكَادُ يُفِيضُ بِهَا لِسَانُهُ.
خطب وأمّ المصلين لصلاة الجمعة فضيلة إمام وخطيب المسجد الحرام الشيخ الدكتور ماهر المعيقلي 
الحمد لله.. الْحمد للهِ عظيم الشأن، واسع الفضل والإحسان، جعلنا خير أمَّة، وهدانا لطريق الجماعة والسنة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الحمد كله، وبيده الخير كله، وإليه يرجع الأمر كله، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله، العارف بالله حقاً، والمتوكل عليه صدقاً، والمتذلل له تعبداً ورقاً، صلى الله عليه، وعلى آله وأزواجه الأطهار، وصحابته الأخيار، ومن تبعهم بإحسان ما تعاقب الليل والنهار، وسلم تسليماً كثيراً.
قال فيها أما بعد فيا عباد الله: اتقوا الله تسعدوا، وتوسطوا في الأمور تفلحوا، واعتصموا بوصية الله في كتابه، الهادية إلى جنانه ورضوانه: ﴿وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ ۚ﴾.
أَمة الإسلام: إن الاعتدال والتوازن، سمة ظاهرة في الكون، قال سبحانه: ﴿وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا﴾، ﴿وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْزُونٍ﴾، فجعل سبحانه التوازن في خلقه، سنة كونية: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَٰهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِضِيَاءٍ ۖ أَفَلَا تَسْمَعُونَ (71) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَٰهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ ۖ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (72) وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾، وإن من رحمة الله علينا وكرمه، وفضله وجوده ومنته، أن جعل أمة محمد صلى الله عليه وسلم، هي الأمة الوسط بين الأمم، عقيدةً وعملا، وشريعةً ومنهجاً، أثنى الله تعالى عليها في كتابه فقال: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً﴾، فهي وسط في كل الأمور، الدينية والدنيوية، فلا غلو ولا تقصير، ولا إفراط ولا تفريط، وما من شعيرة من شعائر الدين، إلا وهي موصوفة بالاعتدال والوسطية، وفي صحيح الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي جُحَيْفَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: آخَى النَّبِيُّ -صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- بَيْنَ سَلْمَانَ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ، فَزَارَ سَلمَانُ أَبَا الدَّرْدَاءِ، فرَأَى أُمَّ الدَّرْدَاءِ مُتَبَذِّلَةً، فقَالَ لَهَا: مَا شَأْنُكِ؟ قَالَتْ: أَخُوكَ أَبُو الدَّرْدَاءِ لَيْسَ لَهُ حَاجَةٌ فِي الدُّنْيَا، فجَاءَ أَبُو الدَّرْدَاءِ، فصَنَعَ لَهُ طَعَامًا، فقَالَ: كُلْ، قَالَ: فَإِنِّي صَائِمٌ، قَالَ: مَا أَنَا بِآكِلٍ حَتَّى تَأْكُلَ، قَالَ: فَأَكَلَ، فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ ذَهَبَ أَبُو الدَّرْدَاءِ يَقُومُ، قَالَ: نَمْ، فنَامَ، ثُمَّ ذَهَبَ يَقُومُ، فَقَالَ: نَمْ، فَلَمَّا كَانَ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ، قَالَ سَلْمَانُ: قُمِ الآنَ، فَصَلَّيَا، فَقَالَ لَهُ سَلْمَانُ: "إِنَّ لِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا، ولِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، ولأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، فَأَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ". فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((صَدَقَ سَلْمَانُ)).
وقال فضيلته إخوة الإيمان: إن التوازن في الحياة، والتوفيق بين الحقوق والواجبات، من أهم المهمات، فيكون المرء مُتَّزِنًا فِي عباداته ومعاملاته، لا يطغى عليه أمر على حساب غيره، ولا يقدم المهم على الأهم، ولا المفضول على الفاضل، وهو المنهج الذي كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم، وأصحابه الكرام، فالاعتدال هو الاعتصام بحبل الله المتين، والسير على صراطه المستقيم، ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ﴾، وفي سنن الترمذي: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيينَ، عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ))، فأول الحقوق عند أهل التوسط والاعتدال، هو حَقُّ الرب الكريم المتعال، فالله سبحانه لم يخلقنا عبثا، ولم يتركنا هملا، ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ ۖ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ﴾، فخلقنا سبحانه لعبادته، وحده لا شريك له، قال صلى الله عليه وسلم: ((يا مُعاذُ، أتدري ما حَقُّ اللهِ على العِبادِ، وما حَقُّ العِبادِ على اللهِ؟))، قُال معاذ: اللهُ ورَسولُه أعلَمُ، قال: ((حَقُّ اللهِ على العِبادِ أن يَعبُدوه ولا يُشرِكوا به شَيئًا، وحَقُّ العِبادِ على اللهِ ألَّا يُعَذِّبَ مَن لا يُشرِكُ به شيئًا))، متفق عليه، وإذا أدى العبد حق ربه، انتظمت حياته، وأعانه الله على أداء باقي حقوقه، ومن ذلك حق نفسه عليه، من متطلَّباتها الروحيَّة، وحاجاتها الجسدية، والشريعة إنما جاءت باليسر والسَّماحة، والمسايرة للفطرة، فقال سبحانه: ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا﴾، أي: استعمل ما وهبك الله من النعمة في طاعة ربك، وما يحصل به من الثواب لآخرتك، وَلا تنسَ ما أباح الله لك، ولئن كانت الآخرة هي المطلب الأعلى، والمقصد الأسمى، فإن الاشتغال بها، لا يكون على حساب السعي في الحياة الدنيا، والله جل جلاله أنكر على الذين يحرمون على أنفسهم الطيبات، معتقدين بأن ذلك يزيدهم في الدرجات، ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ القِيَامَةِ﴾.
 وأضاف فضيلته إخوة الإيمان: إن تنظيم الوقت، وترتيب الأولويات والمهمات، هو المعين بعد توفيق الله، على تحمل المسؤولية، ففي الصحيحين: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((كُلُّكُمْ راعٍ، وكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عن رَعِيَّتِهِ، -وذكر منهم-: والرَّجُلُ راعٍ في أهْلِهِ، وهو مَسْئُولٌ عن رَعِيَّتِهِ))، ورعاية الرجل لأهله، يكون بكل ما يصلح دينهم ودنياهم، وما يحقق لهم النجاح في الدنيا، والفلاح في الآخرة، وأعظم الرعاية، أمرهم بالصلاة، حيث وجه بها سبحانه بقوله: ﴿وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى﴾، وأمر الأهل بالصلاة يا عباد الله، ما هو  إلا باعث على القيام بجميع الأوامر والنواهي، لأن الصلاة، أول ما يحاسب عنه العبد يوم القيامة، فإن صلحت فقد أفلح وأنجح، وإن فسدت فقد خاب وخسر، ف﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لاَّ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾.
ثم اعلموا معاشر المؤمنين: أن الله أمركم بأمر كريم، ابتدأ فيه بنفسه فقال عز من قائل: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾.
اللهم صل على محمد، وعلى أزواجه وذريته، كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمد، وعلى أزواجه وذريته، كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد.
وارض اللهم عن الخلفاء الراشدين، أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك وجودك يا أرحم الراحمين اللهم أعز الإسلام والمسلمين، واحم حوزة الدين، واجعل هذا البلد آمنا مطمئنا رخاء سخاء وسائر بلاد المسلمين اللهم يا حي يا قيوم برحمتك نستغيث، أصلح لنا شأننا كله، ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين اللهم فرج هم المهمومين من المسلمين، ونفس كرب المكروبين، واقض الدين عن المدينين، واشف مرضانا ومرضى المسلميناللهم أصلح أحوال المسلمين في كل مكان برحمتك يا أرحم الراحمين
اللهم من أراد بلادنا وأمننا وبلاد المسلمين بسوء، فاشغله بنفسه، ورد كيده في نحره، واجعل دائرة السوء عليه يا رب العالمين
اللهم وفق ولي أمرنا، خادم الحرمين الشريفين، لما تحب وترضى، وخذ بناصيته للبر والتقوى، اللهم وفقه وولي عهده الأمين وأعوانهم، لما فيه صلاح العباد والبلاد، اللهم جازهم بالخيرات، على خدمة الحرمين الشريفين وقاصديهما. 


_HIM5629.jpg


_HIM5622.jpg
_HIM5624.jpg

تمكن أكثر من 10 ملايين زائر من الصلاة في الروضة الشريفة منذ بداية العام 2024 م بنسبة ارتفاع 26% عن 2023 م، وذلك عبر حجز موعد مسبق من خلال تطبيق نسك بشكل سهل وميسّر، في إطار الجهود المبذولة لتوفير تجربة مريحة وسلسة للزوار.

وفي المسجد الحرام خلال موسم حج 1445هـ، وصل 1,133,594 حاجًا إلى وجهاتهم بسهولة عبر خدمات الإرشاد المكاني، وأُتيح لضيوف الرحمن وعامة المسلمين الاستماع لخطبة عرفة التي تُرجمت إلى 37 لغة منها 17 لغة ترجمة غير متزامنة، وبثت مباشرة بـ 20 لغة؛ مما مكن مختلف الجنسيات فهم محتوى الخطبة والاستفادة منها.

من جهة أخرى، بلغ حجم توزيع مياه زمزم في المسجد الحرام خلال موسم حج 1445 هـ، 12,516 متر مكعب، وفيما يتعلق بتسهيل الحركة استفاد من العربات 299,846 حاجًا.

وقد بلغت نسبة رضا الحجاج عن الخدمات 87%، فيما استفاد من خدمات إجابة السائلين 103,870، وبلغ متوسط ساعات طواف القدوم 1:02 ساعة وطواف الإفاضة 1:19 ساعة وطواف الوداع 1:49 ساعة. بدورها استقبلت مكتبة المسجد الحرام خلال موسم الحج 18,815 زائرًا، من بينهم 800 باحث و1,524 قارئًا، وتم تنظيم برامج تعليمية خاصة استفاد منها 193 طفلًا، ما يعزز نشر المعرفة بين الزوار من مختلف الأعمار.

على صعيد الجودة والسلامة، تتم مراقبة مياه زمزم يوميًا، عبر فحص 80 عينة؛ لضمان مطابقتها للمعايير الصحية المطلوبة، وتتم متابعة هذه الفحوصات للتحقق من سلامة المياه المقدمة لضيف الرحمن.

في المسجد الحرام خلال موسم رمضان 1445 هـ، تم توفير 101 عربة كهربائية تتسع لـ 6 إلى 10 أشخاص مخصصة لنقل كبار السن والأشخاص ذوي الإعاقة في سطح المطاف، بالإضافة إلى 2700 عربة كهربائية صغيرة، كذلك تم تنفيذ 10 عمليات تنظيف يوميًا للمسجد الحرام والمطاف بمشاركة 6434 عاملًا، وتم استخدام 5633 مُعدة، و63 ألف لتر من المطهرات لضمان بيئة نظيفة.

فيما يتعلق بمياه زمزم، تم توفير الماء البارد يوميًا، حيث تم استهلاك 35 ألف لتر مكعب، وتوزيع مليون عبوة زمزم، واستعمال 70 مليون كاسة بلاستيكية خلال شهر رمضان، وفيما يتعلق بالطفل تم إنشاء مركزان لضيافة الأطفال ضمت قرابة 2000 طفل يوميًا.

وفي المجال الإعلامي، حقق فيلم "أنا الفريدة" انتشارًا وصل إلى أكثر من 12 مليون مشاهد، واستقطبت المعارض المقامة في التوسعة السعودية الثالثة “معالم الكعبة المشرفة” و "المعرض التوعوي الرقمي" أكثر من 60 ألف زائر.

وفي جانب المكتبات أطلقت مكتبة المسجد النبوي خدمة البحث الرقمي للزوار والباحثين، وأتاحت لهم الوصول إلى أكثر من 161 ألف كتاب رقمي، تم أرشفتها رقميًا، بإجمالي 43 مليون ورقة، مع مراعاة حقوق النشر والتأليف داخل نطاق مكتبة المسجد النبوي، وتضم المكتبة أكثر من 70 جهازًا مخصصة للباحثين لاستخدام الخدمات الرقمية.

أما على مستوى التجهيزات، فإن نظام الإضاءة في المسجد النبوي يحتوي على 80,419 وحدة إضاءة موزعة في أنحاء متفرقة، تشمل 30 نوعًا مختلفًا من وحدات الإضاءة، كما أن هناك 2,419 وحدة إضاءة مثبتة على الأعمدة، بالإضافة إلى 10,046 وحدة إضاءة تحمل لفظ الجلالة، وخلال موسم الحج الماضي، تم توفير 15 ألف حافظة زمزم، إلى جانب تركيب 344 مروحة رذاذ لتبريد الأجواء، مما ساهم في راحة المصلين خلال فترات الصيف.

ولتسهيل حركة الحجاج القادمين إلى المسجد النبوي بعد أداء النُسك تم تهيئة 99 بابًا و180 سلمًا كهربائيًا، بالإضافة إلى 17 مصعدًا لضمان سهولة التنقل، كما تم توفير 26 مصلى مخصصًا للأشخاص ذوي الإعاقة، وتجهيز 2,550 دورة مياه.

ولتحسين راحة المصلين، تم فرش 18 ألف سجادة داخل المسجد النبوي، في حين ساهمت 85 وحدة تكييف في توفير أجواء لطيفة، علاوة على ذلك، ساهم 6,000 متطوع في تقديم مختلف الخدمات للحجاج والمعتمرين، مما يعزز الدور الفعّال للجهود التطوعية في تجويد تجربة الزوار وضمان راحتهم.

تعكس هذه الأرقام جزءًا من العمل الذي يقدمه منسوبو الهيئة العامة للعناية بشؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي، بما يتماشى مع تطلعات حكومة خادم الحرمين الشريفين -رعاها الله- وحرصها على تقديم خدمات تُسهم في تسهيل أداء المناسك وضمان راحة وسلامة ضيوف الرحمن.
 
 photo_5812264098354809704_y.jpgphoto_5812264098354809723_y.jpgphoto_5812264098354809722_y.jpgphoto_5812264098354809721_y.jpgphoto_5812264098354809720_y.jpgphoto_5812264098354809719_y.jpgphoto_5812264098354809717_y.jpgphoto_5812264098354809716_y.jpg

خطب وأمّ المصلين لصلاة الجمعة فضيلة إمام وخطيب المسجد الحرام الشيخ الدكتور فيصل غزاوي.

وتحدث فضيلته في خطبته عن عجلت الإنسان في حياته فقال: أما شأنُ الإنسانِ فكما بيّن القرآنُ قال تعالى: ﴿خُلِقَ الْإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ﴾ أي رُكِّب على العجلةِ وجُبل عليها؛ فالعجلةُ في طبعِه وتكوينِه، وقال سبحانه: ﴿وَكَانَ الْإِنسَانُ عَجُولًا﴾ أيْ: مُبالِغًا في العَجَلَةِ؛ يَتَسَرَّعُ إلى طَلَبِ كُلِّ ما يَقَعُ في قَلْبِهِ ويَخْطُرُ بِبالِهِ؛ ولا يتأنى، بل يُبادرُ الأشياءَ ويستعجلُ بوقُوعِها.

والعَجِل أيها الإخوة له صفاتٌ يُعرفُ بها، قال أبو حاتم البُستي رحمه الله: "إنّ العَجِلَ يقولُ قَبل أن يَعلمَ، ويُجِيبُ قبلَ أنْ يفهمَ، ويَحمدُ قبل أنْ يُجَرِّبَ، ويَذُمُّ بعد ما يَحْمَدُ، والعَجِلُ تصحبُهُ النّدَامةَ، وتَعتزِلُهُ السّلامةَ، وكانتْ العربُ تسميها أمَّ النَّدَامَاتِ".

وتحدث فضيلته عن العجلة المذمومة وبين أنواعها فقال: للعجلة المذمومةِ صُورٌ كثيرة، وأمثلة متعددة؛ فمن ذلك أن يستعجل الإنسان بسؤال الله ما يَضرُّه كما يستعجل في سؤال الخير، قال تعالى: ﴿وَيَدْعُ الْإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنسَانُ عَجُولًا﴾، قال ابن كثير رحمه الله: يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ عَجَلَةِ الْإِنْسَانِ، وَدُعَائِهِ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ وَلَدِهِ أَوْ مَالِهِ ﴿بِالشَّرِّ﴾ أَيْ: بِالْمَوْتِ أَوِ الْهَلَاكِ وَالدَّمَارِ وَاللَّعْنَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَلَوِ اسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ لَهَلَكَ بِدُعَائِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ﴾.

ومنها: أن يتعجل المرء في الحكم بين المتنازعين قبل التبين، وقد جاء في وصيته صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه لمابعثه إلى اليمن قاضيا: (فإذا جلَسَ بينَ يديكَ الخصمانِ، فلا تَقضينَّ حتَّى تسمَعَ منَ الآخَرِ، كما سمِعتَ منَ الأوَّلِ، فإنَّهُ أحرى أن يتبيَّنَ لَكَ القضاءُ)، ومنها: الاستعجال في نتائج الدعوة إلى الله ورؤية ثمار الجُهد والبذل، فإن رأى عدم استجابة من الناس، تذمر وتضجر وتوقف عن دعوتهم، وقد يبادر بالدعاء عليهم ويتعجل هلاكهم، عَنْ قَتادَة رحمه الله في قوله تعالى: ﴿ولا تَكُنْ كَصاحِبِ الحُوتِ﴾ قالَ: "لا تَعْجَلْ كَما عَجِلَ، ولا تُغاضِبْ كَما غاضَب".

ومن العجلة أن يستبطئ المؤمن النصرَ قال عز وجل: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم ۖ مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّىٰ يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ اللَّهِ ۗ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ﴾ قال القرطبي رحمه الله: "أَيْ بَلَغَ الْجَهْدُ بِهِمْ حَتَّى اسْتَبْطَؤوا النَّصْرَ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: "أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ" وَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِ الرَّسُولِ عَلَى طَلَبِ استعجال النصر لا على شك وارتياب."

ومنها أن يستبطئ المؤمن نزولَ العذابِ بالأعداء وحلولَ العقوبةِ بهم قال تعالى: ﴿فَٱصۡبِرۡ كَمَا صَبَرَ أُو۟لُوا۟ ٱلۡعَزۡمِ مِنَ ٱلرُّسُلِ وَلَا تَسۡتَعۡجِل لَّهُمۡ﴾ قال البقاعي رحمه الله: "ولَمّا أمَرَهُ بِالصَّبْرِ الَّذِي هو مِن أعْلى الفَضائِلِ، نَهاهُ عَنِ العَجَلَةِ الَّتِي هي مِن أُمَّهاتِ الرَّذائِلِ، لِيَصِحَّ التَّحَلِّي بِفَضِيلَةِ الصَّبْرِ الضّامِنَةِ لِلْفَوْزِ والنَّصْرِ..".

والأعظم من هذا الأمر أن يستعجل الكفار بوقوع العذاب بهم تكذيباً وجحوداً وعناداً واستبعاداً قال تعالى: ﴿وَیَسۡتَعۡجِلُونَكَ بِٱلۡعَذَابِ وَلَنیُخۡلِفَ ٱللَّهُ وَعۡدَهُ﴾. ومنها نقل الأخبار قبل التثبت من صحتها وإذاعة الشائعات والأباطيل قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾ وقال تعالى: ﴿وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ﴾. ومما يدخل في هذا الباب التعجل في نسبة الأقوال لغير قائليها وعزو الكلام لغير أصحابه، وأظهر أمثلة ذلك نشر الأحاديث المكذوبة على الرسول ﷺ ونسبة مالم يقله إليه. ومن العجلة المذمومة إسراع الخطى عند الذهاب إلى المسجد لإدراك الصلاة، ولا سيما إذا كان الإمام قبيل الركوع أو أثناء ركوعه.

ومنها الاستعجال في أداء الصلاة، فلا يتمُّ ركوعها ولا سجودها، ولا يطمئنُّ فيها، والإسراع في الصلاة إذا كان يخل بركن الطمأنينة فإنها تبطل، وقد قال صلى الله عليه وسلم للمسيء في صلاته: "ارجع فصل فإنك لم تصلِ "كما أنه نُهي عن التشبه بفعل المنافقين في نقر الصلاة نقرًا. ومما يدخل في باب العجلة المُحرمة في الصلاة: مُسابقة الإمام، فإن المطلوب من المأموم أن يكون مُتابعًا لإمامه، لا يُسابقه، ولا يتأخر عنه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "إنما جُعل الإمام ليُؤْتَمَّ به، فلا تختلفوا عليه، فإذا كبَّر فكبروا، وإذا ركع فاركعوا، وإذا سجد فاسجدوا".

ومنها استعجال العبد إجابةَ دعوته وتفريجَ كربته قال صلى الله عليه وسلم: "يُسْتَجابُ لأحَدِكُمْ ما لَمْ يَعْجَلْ، يقولُ: دَعَوْتُ فَلَمْ يُسْتَجَبْ لِي"، ومنها أن يطلب من الله حاجاته ويتَركَ ما كان يَنبَغي له أنْ يَبدَأَ به مِنْ آدابِ الدُّعاء، فقد سمعَ رسول اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ رجلًا يَدعو في صلاتِهِ لم يُمجِّدِ اللَّهَ تعالى ولم يُصلِّ علَى النَّبيِّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ، فقالَ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ: (عجِلَ هذا، ثمَّ دعاهُ فقالَ لَهُ أو لغيرِهِ: إذا صلَّى أحدُكُم فليَبدَأ بتَمجيدِ ربِّهِ جلَّ وعزَّ والثَّناءِ علَيه، ثمَّ يصلِّي علَى النَّبيِّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّم، ثمَّ يَدعو بَعدُ بما شاءَ)، ومن الفوائد المستنبطة من قوله تعالى: ﴿وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلى اللَّهِ فَهو حَسْبُهُ إنَّ اللَّهَ بالِغُ أمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا﴾ ما ذكره ابن القيم رحمه الله بقوله: "لَمّا ذَكَرَ كِفايَتَهُ لِلْمُتَوَكِّلِ عَلَيْهِ فَرُبَّما أوْهَمَ ذَلِكَ تَعْجِيلَ الكِفايَةِ وقْتَ التَّوَكُّلِ، فَعَقَّبَهُ بِقَوْلِه: ﴿قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا﴾ أيْ وقْتًا لا يَتَعَدّاهُ، فَهو يَسُوقُهُ إلى وقْتِهِ الَّذِي قَدَّرَهُ لَهُ. فَلا يَسْتَعْجِلُ المُتَوَكِّلُ ويَقُولُ: قَدْ تَوَكَّلْت، ودَعَوْت فَلَمْ أرَ شَيْئًا، ولَمْ تَحْصُلْ لِي الكِفايَةُ، فاللَّهُ بالِغُ أمْرِهِ في وقْتِهِ الَّذِي قَدَّرَهُ لَه".

ومنها استبطاء الرزق، فيستعجل فيطلبه من طرق محرمة، ووجوه غير مشروعة، قال صلى الله عليه وسلم: (ولا يحملنكم استبطاء الرزق على أن تطلبوه بمعصية الله فإن ما عند الله لا يُنال إلا بطاعته). ومن العجلة المذمومة القول على الله بغير علم والاستعجال في الفتيا للمؤهل أو لمن هو ناقل لها، وقد كان سلف هذه الأمة من الصحابة والتابعين يهابون الفتوى ويتريثون فيها، بل ويتدافعونها فيما بينهم، ومنها عدم الصبر على حالة واحدة، وإن كانت حالةَ نعمة ورخاء حتى يمل عنها ويسأمَ ويريدَ التحول إلى حالة هي دون تلك الحالة ويرضى بشيء دُون.


ومنها العجلة في الحكم على الأشخاص والأقوال والأفعال والنيات والمقاصد قبل البحث والتَّحري، وفي سوء الظنِّ بإخوانه المسلمين قبل التَّثبت واليقين، ومنها التعجل في الاعتماد على نتائج التقنيات الحديثة ومحركات البحث الآلية وأنظمة الذكاء الاصطناعي من دون النظر إلى ما قد ينتج عنها من المعلومات الخاطئة والمضللة، وعدم الرجوع إلى المصادر الموثوقة في ذلك.

ومنها الاستعجال في الجزم بتنزيل علامات الساعة وأحداث آخر الزمان والملاحم على الواقع، ومنها العجلة والتسرع في اتخاذ بعض القرارات التي تحتاج إلى تأن ودراسة وتأمل، ولا يغيب عن الأذهان أن الاستخارة والاستشارة ركنان أساسيان لكل قرار حكيم وموفَّق، ومنها العجلة في طلاق الرجل زوجته ومخالعة المرأة زوجها لأتفه سبب وأدنى موقف، والمبادرة إلى اتخاذ قرار التفرق مِن غير تأمل ولا تَرَوٍ ولا نظر في العواقب، وكم كان لذلك من نتائج وخيمة من تدمير البيوت وتشتيت الأسر وضياع الأولاد وقطيعة الأرحام.

ومنها الاستعجال والسرعة في قيادة السيارات وما يترتب على ذلك من الحوادث المروعة التي كانت سبباً في إزهاق نفوس كثيرة، وأمراض خطيرة، وعاهات مزمنة وتلف للأموال.

وأخطر صور العجلة المذمومة على الإنسان إيثار العاجل على الآجل والاستغراق في متع الحياة الدنيا والغفلة عن الآخرة، فمما يقال للذين كفروا يوم القيامة تقريعا وتوبيخا ﴿أَذۡهَبۡتُمۡ طَیِّبَـٰتِكُمۡ فِی حَیَاتِكُمُ ٱلدُّنۡیَا وَٱسۡتَمۡتَعۡتُم بِهَا﴾ فمن استوفى طيباته وانغمس في شهواته المحرمة واستعجلها في هذه الدار حُرمها في الآخرة.

واختتم فضيلته خطبته الأولى عن افساد العجلة للأمور فقال: إن الاستعجال في الأمور قبل أوانها ووقتها مُفسدٌ لها في الغالب؛ وإن الأناة والحلم والتُّؤدة والرفق من الصفات العظيمة التي يُحبها الله سبحانه، فقد قال صلى الله عليه وسلم لأشج عبد القيس: (إن فيك خَصلتينِ يُحِبُّهما الله: الحِلمُ، والأناة).



خطب وأم المصلين لصلاة الجمعة فضيلة إمام وخطيب المسجد النبوي الشيخ الدكتور أحمد بن طالب.

واستهل خطبته بنصح المسلمين بالعناية بالقلب فقال: إن للقلوب زكاة ونماءً كنماء الأبدان، وأغذية وأدواءً، فمن اتقى نواقض الشرك ونواقصه ونقى قلبه من أوساخ البدع والذنوب والمعاصي فقد أفلح وتزكى.

وقد تابع اللّٰه بين سبعة أيمان أقسم بها سبحانه على فلاح من زكى نفسه وخيبة من دنسها قال تعالى: {وَٱلشَّمۡسِ وَضُحَىٰهَا (1) وَٱلۡقَمَرِ إِذَا تَلَىٰهَا (2)وَٱلنَّهَارِ إِذَا جَلَّىٰهَا (3) وَٱلَّيۡلِ إِذَا يَغۡشَىٰهَا (4)وَٱلسَّمَآءِ وَمَا بَنَىٰهَا (5) وَٱلۡأَرۡضِ وَمَا طَحَىٰهَا (6) وَنَفۡسٖ وَمَا سَوَّىٰهَا (7) فَأَلۡهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقۡوَىٰهَا (8) قَدۡ أَفۡلَحَ مَن زَكَّىٰهَا (9) وَقَدۡ خَابَ مَن دَسَّىٰهَا (10)}.

وبين فضيلته أقسام الناس يوم القيامة فقال: والناس يوم القيامة اثنان: أهل إجرام وتدسية أو أهل فلاح وتزكية {إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَىٰ (74) وَمَن يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَٰئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَىٰ (75) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ۚ وَذَٰلِكَ جَزَاءُ مَن تَزَكَّىٰ (76)}.

ولا زكاة ولا فلاح إلا بفضل الرحمن الرحيم {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَىٰ مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}.

والعروة الوثقى والوسيلة العظمى توحيدُ محبةٍ وخضوع، وصلاةُ قنوتٍ وخشوع، ولسانٌ رطبٌ من ذكر الله، ومحبةٌ واتباعٌ وتعزيرٌ وتوقيرٌ لرسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وآله وسلم. قال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّىٰ (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّىٰ}.

وإذا امتلأ القلب بشي ضاق عن غيره، قال تعالى: (مَّا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ)، والمزاحمة مدافعة، والغلبة للكثرة، والقلوب آنية اللّٰه في أرضه، فأحبها إلى اللّٰه أرقها وأصفاها، وإنما يكون ذلك بما يُصب فيها.

قال تعالى: {قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ ۚ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُم مِّن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا ۚ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَىٰ وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ ۗ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ ۚ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ * أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا ۚ وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ ۚ كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ ۚ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً ۖ وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ ۚ كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ}.

قال رسول اللّٰه صلى الله عليه وسلم: «مثل ما بعثني اللّٰه به من الهدى والعلم، كمثل الغيث الكثير أصاب أرضا، فكان منها نقية، قبلت الماء، فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها أجادب، أمسكت الماء، فنفع اللٰه بها الناس، فشربوا وسقوا وزرعوا، وأصابت منها طائفة أخرى، إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه في دين الله، ونفعه ما بعثني اللّٰه به فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا، ولم يقبل هدى اللّٰه الذي أرسلت به».

وبين فضيلته في ختام خطبته الأولى فضل القرآن في تشبع القلب فقال: ولذلك لم يكن للقلب أن يتسع للشي وضده قال ابن مسعود رضي اللّٰه عنه "إن هذا القرآن مأدبة اللّٰه فمن دخل فيه فهو آمن" وما ذاك إلا لأنه تشبع بطعامها وتضلع بشرابها.

ومن ترك المأمور شُغل بالمحظور، ومن أنقض ظهره بالأوزار ضعف عن الأذكار، ومن أضنى نفسه في الابتداع زهد في الاتباع، قال تعالى: {فَنَسُوا حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ ۚ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ}. قال الله تعالى: {وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَٰنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ * وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ}.

ومن علت همته، سلمت من الآفات مهجته، قال رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم: «مَنْ كَانَتِ الآخِرَةُ هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ وجَمَعَ لَهُ شَمْلَهُ، وأَتَتْهُ الدُّنْيَا وهِيَ رَاغِمَةٌ، ومَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وفَرَّقَ عَلَيْهِ شَمْلَهُ، ولَمْ يَأْتِهِ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا مَا قُدِّرَ لَهُ». ومِن عاجل البشرى لمن أقبل بقلبه إلى ربه، أن تقبل قلوب العباد إليه، وتتوافق على حبه، قال بعض السلف "ما أقبل عبد على اللّٰه بقلبه إلا أقبل اللّٰه عز وجل بقلوب المؤمنين إليه حتى يرزقه
مودتهم ورحمتهم".

وتحدث فضيلته في خطبته الثانية أن صلاح القلب يصلح الجسد فقال : واعلموا أن القلب ملك الجوارح وسلطانها فبصلاحه يصلحون وفسادهم بفساده.

قال رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم: «إِنَّ الْخَلَالَ بَيِّنٌ وإِنَّ الْحَرَامَ بَيِّنٌ، وبَيْنَهُمَا مُشْتَبِهَاتٌ لَا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَّى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَاَ لِدِينِهِ وعِرْضِهِ، ومَنْ وقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وقَعَ فِي الحَرَامِ، كَالرَاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَرْتَعَ فِيهِ، أَلَا وإِنَّ لِكُلِّ مَلِكِ حِمَى، ألَا وإِنَّ حِمَى اللهِ مَحَارِمُهُ، أَلَا وإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً، إِذَا صَلَحَتْ صَلَعَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلَا وهِيَ الْقَلْبُ».

فهنيئا لمن تعاهد قلبه، وأرضى ربه فهو مقصود الأعمال ومعقود الآمال (لَن يَنَالَ ٱللَّهَ لُحُومُهَا ولا دِمَاؤُهَا ولَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَىٰ مِنكُمْ).

وإذا استحلى اللسان ذكر اللّٰه وما والاه، وأسرعت الجوارح إلى طاعة الله، فحينئذ يدخل حب الإيمان في القلب كما يدخل الماء البارد الشديد برده في اليوم الشديد حره للظمآن الشديد عطشه! ويصير الخروج من الإيمان أكره إلى القلوب من الإلقاء في النار، وأمرّ عليها من الصبِر، وما صفى القلب ولا حلى الذكر ولا صلحت الجوارح ولا رُفعت الأعمال بمثل الصلاة والسلام على رسول اللّٰه.

GaKgNgpXAAAZglMGaKgNgpWwAAqh4GGaKgNgpW0AAETRh
في عام 2024، تعامل فريق "العناية بضيوف الحرمين" مع أكثر من 1038 استفسارًا وملاحظة قدمها الزوار عبر موقع X، مما ساهم في تقديم الدعم الفوري لضيوف الرحمن، من خلال الحساب (@Alharamain_care)؛ تمكن الفريق من تحويل العديد من تلك الاستفسارات إلى حلول عملية واستجابات سريعة، ساعدت على تحسين تجربة الزوار.

photo 6019456048018080267 y
تُظهر الأرقام حجم المسؤولية التي تقع على عاتق الفريق في تلبية احتياجات ضيوف الرحمن على مدار العام، سواء كان الأمر يتعلق بحالات طارئة أو استفسارات عامة حول الخدمات، فإن الفريق يواصل تقديم دعم متواصل لضمان أن تكون تجربة الزوار أكثر سلاسة وراحة.  

photo 5994775194545275257 w
استجابة لحالة صحية طارئة في المسجد النبوي

في إحدى اللحظات الحرجة، تعرضت والدة إحدى الزائرات لانخفاض حاد في مستوى السكر أثناء زيارتها للمسجد النبوي، لم يتأخر فريق "العناية بضيوف الحرمين" عن تقديم الدعم، تلقى الفريق رسالة وفي غضون 4 دقائق، تمت الاستجابة وأرسلت عربة لنقل الزائرة إلى موقع الرعاية المناسب، مما ساهم في سلامتها بفضل الله.  

photo 5994775194545275256 w
تسهيل حركة كبار السن في الروضة الشريفة

خلال زيارة زائر ووالدته الكبيرة في السن إلى المسجد النبوي، كانت هناك حاجة ماسة في الحصول على عربة لنقل والدته بسبب حالتها الصحية؛ بمجرد التواصل مع فريق العناية، تم إرسال العربة في أقرب وقت، مما مكنهم من إتمام زيارتهما بسهولة وطمأنينة.
 

photo 5994775194545275246 w
توفير المياه في إحدى ليالي رمضان

في أحد ليالي شهر رمضان المزدحمة، أبلغ أحد الزوار عبر حساب العناية بضيوف الحرمين عن نقص في المياه في إحدى الحافظات عقب صلاة المغرب داخل المسجد الحرام، تم حل المشكلة خلال 11 دقيقة فقط، حيث تم تعبئة حافظات المياه لتلبية احتياجات الزوار في وقت يشهد كثافة عالية من المصلين والمعتمرين.  

photo 5992523394731590329 y
قصص الاستجابة الإنسانية والخدمات التي قدمها فريق "العناية بضيوف الحرمين" خلال عام 2024 توضح التزامنا في الهيئة العامة للعناية بشؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي بتقديم أعلى مستويات الخدمة لضيوف الرحمن، من التدخل السريع في الحالات الطارئة إلى تحويل استفسارات الزوار إلى مواد توعوية تخدم الجميع، تواصل فرقنا العمل لضمان أن تكون زيارة الحرمين الشريفين تجربة مريحة ومليئة بالطمأنينة؛ وفقًا لتطلعات المملكة العربية السعودية والتزامها بتقديم كامل العناية لضيوف الرحمن. ‏

photo_5978900621757104268_y.jpgphoto_6019456048018080268_y.jpgphoto_5992523394731590338_y.jpgphoto_5992523394731590326_y.jpgphoto_5992523394731590325_y.jpgphoto_5992523394731590330_y.jpg


خطب وأمّ المصلين لصلاة الجمعة إمام وخطيب المسجد النبوي فضيلة الشيخ الدكتور صلاح البدير، واستهل خطبته قائلاً أيها المسلمون: من الأخلاق العلية والشمائل السنية والشيم المرضية التواضع وترك الزهو والخيلاء والفخر والبذخ والتطاول على العباد.


والتواضع: لين الجانب ولطافة القول ومسالمة الناس وخفض الجناح للمؤمنين في غير منقصة ولا مسكنة ولا مهانة، قال أبو حاتم: ما استجلبت البغضة بمثل التكبر ولا اكتسبت المحبة بمثل التواضع، وخير الرجال من تواضع عن رفعة وعفا عن قدرة وأنصف عن قوة وشرّ الرجال العِطْرِيس المتكبر المتبجح المتفجر المتعظم المختال المتطاول الرافع أنفه ورأسه تيهاً وكبراً الذي استخفه الحمق والجهل حتى جاوز قدْرَه وعَدَا طوره ورفع نَفْسَهُ فَوْقَ كُلِ أَحَدٍ ولم ير حقاً لِأَحَدٍ وظنّ أنه لا أحد يقدر أن يعاليه ويساميه، وإذا تسنم المزهو المعجب بنفسه رتبة، أو نال منزلة، أو تولى منصباً ملأ المواطن صخباً مُذْ حَلَّها وأفسد بتكبره وتجبره محلها وكدر بالمكائد والأحقاد صفوها وبدّد شملها.


ومن وضع نفسه دون قدره رفعه الناس فوق قدره، ومن رفعها عن حده وضعه الناس دون حده یری، قال الشافعي: " أرفع الناس قدرًا من لا يرى قدره، وأكثرهم فضلا لا فضله "، وقال ابن كثير : " يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ ونَعِيمَهَا الْمُقِيمَ الَّذِي لَا يَحُولُ وَلَا يَزُولُ، جَعَلَهَا لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُتَوَاضِعِينَ الَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ ، أَيْ: تَرَفُعًا عَلَى خَلْقِ اللَّهِ وَتَعَاظُمًا عَلَيْهِمْ وَتَجَبُّرًا بِهِمْ، ولَا فَسَادًا فِيهِمْ".



وقال جل وعزّ: (وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا)، قال القرطبي: "هذا نهي عن الخيلاء وأمر بالتواضع"، ولَا تَمْشِ فَوْقَ الأرض إلا تواضــعـا فكم تحتها قوم هُمُ مِنْكَ أَرْفَعُ وَإِنْ كُنْتَ فِي عِزّ وحرز ومنعة فكم مات من قوم هُمُ مِنْكَ أَمْنَعُ، وقال جل وعزّ في صفات الأبرار الأخيار (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ)، أَي أَنهم مَعَ شَرَفِهِمْ وَعُلُو مَكَانِهِمْ عاطِفِينَ متواضعين متذللين أودّاء أرقاءَ رحماء بالمؤمنين.


وعَنْ أَبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَا نَقَصَتْ صَدقَةٌ مِنْ مَالٍ، وَمَا زَادَ اللَّهُ عَبْدًا بِعَفْوِ إِلَّا عِزَّا، وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ للَّهِ إِلَّا رَفَعَهُ اللَّهُ» رواه مسلم، وقالت عَائِشَة "إِنَّكُمْ تَغْفُلُونَ، أَفْضَلُ الْعِبَادَةِ التَّوَاضُعُ" أخرجه أبوداود في الزهد، وقال يحيى بن أبي كثير: "رأس التواضع ثلاث أن ترضى بالدون من شرف المجلس وأن تبدأ من لقيته بالسلام وأن تكره من المدحة والسمعة والرياء بالبر".


ومن صور التواضع إجلال الكبير ورحمة الصغير واحترام النظير للنظير ومعاشرة الصاحب بالتوقير والعطف على المحتاج والكسير والتودد إلى المسكين والفقير وإرشاد التائه والسائل والمستنير.


أيها المسلمون: تواضعوا مع من تعيشون معهم في البيوت وتشاركونهم الزاد والقوت، تواضعوا مع من تجاورنهم في الصباح والمساء، تواضعوا مع الأهل والأولاد والنساء، تواضعوا مع الوالدين اللذين قضى الله أن تخفض لهما جناحك وأن تلين لهما كلامك وأن تبذل لهما تواضعك وتذلك وعطفك وحنانك وأن تخفض لهما صوتك وتكف عنهما تأففك وضجرك وصراخك وصياحك واستعلائك، تواضعوا مع من توجهون له الخطاب، وتطلبون منه الجواب، تواضعوا مع العلماء والأساتذة والمدرسين والمفيدين تواضعوا مع الطلبة والدارسين والمتعلمين، تواضعوا مع من تتعاملون معه بيعاً وشراء، وأجرة وكراء ومبادلة وعطاءً، ومجالسة ومجاورة ومزاملة ومصاحبة وإخاء.


والتواضع من الشمائل النبوية والخصائل المصطفوية قال تعالى: (وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ). أي: ألن جانبك للمؤمنين وتواضع لفقراء المسلمين وارفق بالضعفاء والمساكين، ومن حسن خلقه وتواضعه ورفقه أنه كان يَمُرُّ عَلَى الصَّبْيَانِ فَيُسَلِّمُ عَلَيْهِم، وكان يجالس الْمَسَاكِينَ، ويَمْشِي مَعَ الْأَرْمَلَةِ والْيَتِيمِ في حَاجَتِهِمَا وَكَانَتِ الْأَمَةُ تَأْخُذُ حَيْثُ شَاءَتْ، وجَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ لِي إِلَيْكَ حَاجَةً فَقَالَ لَهَا: «يَا أُمَّ فُلَانٍ اجْلِسِي فِي أَي نَوَاحِي السَّكَكِ شِفْتِ حَتَّى أَجْلِسَ إِلَيْكِ» قَالَ: فَجَلَسَتْ فَجَلَسَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَيْهَا حَتَّى قَضَتْ حَاجَتَهَا، وكَانَ فِي خِدْمَةِ أَهْلِهِ وَكَانَ يَخْصِفُ نَعْلَهُ، ويُخيط ثَوْبَهُ، ويَحْلِبُ شاته ويخدم نفسه ويُجيب دعوة المملوك على خبز الشعير ويقول: لو دُعيت إلَى كُرَاعٍ أَوْ ذِرَاعٍ لَأَجَبْت، ولَوْ أَهْدِيَ إِلَيَّ ذِرَاعٌ أَوْ كُرَاعٌ لَقَبِلْت.


واستهل فضيلته خطبته الثانية وقال أيها المسلمون: والتواضع منه: أعلى وأدنى والأعلى هو التواضع لله تعالى والأدنى: هو ما عداه وآية ذلك تواضع العبد لعظمة الربّ، وجلاله وخضوعه لعزته وكبريائه، فكلما شمخت نفسه ذكر عظمة الرب تعالى فتواضعت إليه نفسه، وانكسر لعظمة الله قلبه، وتطامَن لهيبته، وأخبت السلطانه، ومن خضع الله واندك قلبه من هيبته وانكسر من محبته وخشع من مخافته واستكان وخشع وتواضع أعزه الله ورفعه.


عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : جَلَسَ جِبْرِيلُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَنَظَرَ فِي السَّمَاءِ فَإِذَا مَلَكٌ يَنْزِلُ، فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ: إِنَّ هَذَا الْمَلَكَ مَا نَزَلَ مُذْ خُلِقَ قَبْلَ السَّاعَةِ، فَلَمَّا نَزَلَ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ أَرْسَلَنِي إِلَيْكَ رَبُّكَ أَفَمَلِكًا نَبِيًّا يَجْعَلُكَ، أَوْ عَبْدًا رَسُولًا ؟ قَالَ جِبْرِيلُ : تَوَاضَعْ لِرَبِّكَ يَا مُحَمَّدُ. قَالَ: «بَلْ عَبْدًا رَسُولًا» أخرجه أحمد.


ومن تواضعه لخالقه ومولاه أن نهى أمته عن الغلو في إطرائه ومدحه، عن عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : "لَا تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتْ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمَ فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدٌ فَقُولُوا: عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ" أخرجه البخاري.


ومن التواضع لله قبول الحق والعمل به، سُئِلَ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ عَنِ التَّوَاضُعِ؟ فَقَالَ: " يَخْضَعُ لِلْحَقِّ، ويَنْقَادُ لَهُ، ويَقْبَلُهُ مِمَّنْ قَالَهُ وكان هَيْنَ الْمُؤْنَةِ، لَيْنَ الْخُلُقِ، كَرِيمَ الطَّبْعِ جَمِيلَ الْمُعَاشَرَةِ طَلْقَ الْوَجْهِ بَسَّامًا، مُتَوَاضِعًا مِنْ غَيْرِ ذِلَّةٍ، جَوَادًا مِنْ غَيْرِ سَرَفٍ، رَقِيقَ الْقَلْبِ رَحِيمًا بِكُلِّ مُسْلِمٍ حَافِضَ الْجَنَاحِ لِلْمُؤْمِنِينَ، لَيْنَ الْجَانِبِ لَهُمْ وَكَانَ يَعُودُ الْمَرِيضَ، ويَشْهَدُ الْحِنَازَةَ، ويَرْكَبُ الْحِمَارَ وحفر مع أصحابه الخندق يوم الأحزاب ونقل التُّرَابَ حتى وارَى التُّرَابُ بَيَاضَ بَطْنِهِ، وكان يربط الحجر على بطنه من الجوع، فذروا التبختر والتجبر والتكبر والتقاطع والزموا الملاينة والمساهلة والمياسرة والتواضع فمن تواضع الله شكره وجبره ونصره وستره، ومن تجبر وتبختر وتكبّر قهره وقسره وحقره وكسره.
GZmeqjGW0AwBa 2



خطب وأمّ المصلين لصلاة الجمعة فضيلة إمام وخطيب المسجد الحرام الشيخ الدكتور ياسر الدوسري، واستهل خطبته قائلا: إنَّ منْ أعظمِ نِعَمِ اللهِ على عبادِهِ بعدَ الإيمانِ؛ نعمةَ الأمنِ والأمانِ، فهي هبةٌ مِنَ الكريمِ الرحمنِ، لا تُقَدَّرُ بالأثمان، ولا تُشترى بالأموالِ، ولا يَهنأ عيشٌ بدونِهَا، ولا تطيبُ حياةٌ بفقدِهَا.


فباستتبابِ الأمنِ تُقام شعائرُ الدينِ، وينتشرُ العلمُ، وتجتمعُ الكلمةُ، ويُحكمُ بالعدلِ، وتُحفَظُ الحقوقُ، وتُغدقُ الأرزاقُ، وتتمُّ المصالحُ، ويتبادلُ الناسُ المنافعَ، وتُقام الحدودُ، ويُكَفُّ المُفسِدُ، ويُكبَتُ العدوُّ، ويأمنُ الناسُ على دمائِهِم وأموالِهِم وأعراضِهِم.


وإذا اختلَّ الأمنُ تبدلتِ الأحوالُ، ولم يهنأْ أحدٌ براحةِ بالٍ، فيفشُو الجهلُ، ويشيعُ الظلمُ، وتضيعُ الحقوقُ، وتختلُ المعايشُ، وتُنتهكُ الأعراضُ، وتُسفكُ الدماءُ، وتُهجرُ الأوطان، قالَ اللهُ تعالى: ﴿وَضَرَبَ اللهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ﴾.


معاشرَ المؤمنين: ولمَّا كانَ الأمنُ منْ مقاصدِ دعوةِ الأنبياءِ والمرسلين عليهم السلامُ قَرَنَ الخليلُ إبراهيمُ عليه السلامُ طلبَ الأمنِ بالتوحيدِ؛ فقالَ: {رَبِّ اجْعَلْ هَـذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ} فلمَّا دعَا بالأمنِ مِنْ فسادِ الأبدانِ، دعَا بالأمنِ منْ فسادِ الأديان.


وطلبَ الكريمُ بنُ الكريمِ يوسفُ عليه السلامُ منْ والديهِ دخولَ مِصرَ مُبشِّراً إياهُم بحصولِ الأمنِ لهُم؛ {وَقَالَ ادْخُلُواْ مِصْرَ إِن شَاء اللهُ آمِنِينَ}.


وعندما خافَ كليمُ اللهِ موسى عليه السلامُ طمأنَهُ ربُّهُ بقولِهِ: {يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ} فاندفعَ المحذور، وأقبلَ موسى عليه السلام آمناً، قد ازدادَ إيمانُهُ، وتمَّ يقينُهُ.


ولَمْ يَكُنْ رَسُولُنا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَعُ هَؤُلَاءِ الدَّعَوَاتِ حِينَ يُمْسِي وَحِينَ يُصْبِحُ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، اللَّهُمَّ أَسْأَلُكَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ فِي دِينِي وَدُنْيَايَ، وَأَهْلِي وَمَالِي، اللَّهُمَّ اسْتُرْ عَوْرَاتِي، وَآمِنْ رَوْعَاتِي، وَاحْفَظْنِي مِنْ بَيْنِ يَدَيَّ وَمِنْ خَلْفِي، وَعَنْ يَمِينِي وَعَنْ شِمَالِي، وَمِنْ فَوْقِي، وَأَعُوذُ بِكَ أَنْ أُغْتَالَ مِنْ تَحْتِي». رواه أبو داود.


وقدَّم النبيُّ صلى الله عليه وسلم نعمةَ الأمنِ على نعمتي الصحةِ والرزقِ؛ مُبيناً لأمتِهِ أهمية الأمنِ في الحياةِ، فقالَ: «مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ، مُعَافًى فِي جَسَدِهِ، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ؛ فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا». رواه الترمذي.


أيها المؤمنون: لقدْ وعدَ اللهُ عبادَه بالأمنِ متى ما آمنوا بهِ ووحدُوه، واستقاموا على طاعتهِ وعبدُوه، فقالَ تعالى: ﴿وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا﴾ فالأمنُ قرينُ الإيمانِ؛ يزيدُ بزيادتِهِ، وينقصُ بنقصِهِ، ويُفقدُ بفقدِه.


والإيمان شرطٌ للاستخلافِ في الأرضِ، فمَنْ آمنَ واتقى أَمِنَ في الدنيا وفي يومِ العرضِ، قالَ تعالى: ﴿فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾.


فالخوفُ والحزنُ ينتفيان عمَّنِ اتبعَ الهُدَى، ويحصلُ لهُ الأمنُ والسعادةُ في الآخرةِ والأُولى، فيفوزُ بالمرغوبِ، ويندفعُ عنه المرهوبُ، ويعصمهُ اللهُ منَ الزيغِ والضلالةِ، ويحفظهُ منَ الشقاءِ والجهالةِ، قالَ تعالى: ﴿فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى﴾.


وبذلكم يُعْلم - يا عبادَ الله – ما للأمن من مكانة في الإسلامِ، كمقصدٍ من مقاصده الكبرى، وغايةٍ منْ غاياتهِ العُظمى، وقدْ شرعَ اللهُ لهُ منَ الأحكامِ ما يكفلُه، وأحاطَهُ منَ السياجِ بما يصونهُ، فأوجبَ المحافظةَ على الدِّينِ والنفسِ والعقلِ والعرضِ والمالِ، وقدْ تضافَرتْ نصوصُ الوحيين على ذلكَ، وحرَّمتْ كلَّ وسيلةٍ تُؤدِّي إلى النَّيْل مِنَ الضروراتِ الخمس، وشرَعتْ منَ الأحكام الزاجرةِ ما يمنعُ مِنَ التعرُّضِ لها، أو المساسِ بجنابِهَا.


فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «المُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ النَّاسُ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ، وَالمُؤْمِنُ مَنْ أمِنَهُ النَّاسُ عَلَى دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ». رواه أحمد.


وعَنْ أَبِي شُرَيْحٍ رضيَ اللهُ عنه، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «وَاللهِ لاَ يُؤْمِنُ، وَاللهِ لاَ يُؤْمِنُ، وَاللهِ لاَ يُؤْمِنُ» قِيلَ: وَمَنْ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: «الَّذِي لاَ يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ». رواه البخاري.


وجاءتِ الشريعةُ بالنهي عنْ كلِّ ما يُؤذِي الناسَ حتى في طرقاتِهِم وأسواقِهِم ومواضعِ حاجاتِهِم؛ فعَنْ أَبِي مُوسَى الأشعريِّ رضيَ اللهُ عنه قالَ: قالَ رسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا مَرَّ أَحَدُكُمْ فِي مَسْجِدِنَا، أَوْ فِي سُوقِنَا، وَمَعَهُ نَبْلٌ، فَلْيُمْسِكْ عَلَى نِصَالِهَا بِكَفِّهِ، أَنْ يُصِيبَ أَحَداً مِنَ المُسْلِمِينَ مِنْهَا بِشَيْءٍ». رواه مسلم.


ولم يقتصرْ تحقيقُ الأمنِ على المسلمين فحسب، بلِ اعتنى الإسلامُ بتأمينِ حياةِ غيرِهِم، وحمَى حقوقَهُم، فعَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قَالَ: «أَلَا مَنْ ظَلَمَ مُعَاهَدًا، أَوِ انْتَقَصَهُ، أَوْ كَلَّفَهُ فَوْقَ طَاقَتِهِ، أَوْ أَخَذَ مِنْهُ شَيْئًا بِغَيْرِ طِيبِ نَفْسٍ، فَأَنَا حَجِيجُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» رواه أبو داود.


واستهل فضيلته خطبته الثانية وقال: إنَّ نعمةَ الأمنِ لا تتحققُ إلا بوجودِ مقوماتِهَا، ولا تثبتُ إلا بدوامِ أسبابِهَا، وأولُها وأولاها: توحيدُ الله، وتخليصُه منْ شوائبِ الشركِ، ومجانبةُ البدعِ والخرافاتِ؛ فالتوحيدُ يُثمرُ الأمنَ والأمان؛ قالَ سبحانه: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} فالموحِّدُ المستقيمُ على أمرِ اللهِ آمنٌ في الدنيا وآمنٌ في الآخرةِ، يقولُ تعالى: {مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا وَهُم مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ}، والمرادُ بالحسنةِ هنا توحيدُ الله.


ثانيها: شكرُ اللهِ تعالى على نعمةِ التوحيدِ والأمنِ والأمانِ، والحذرُ منَ الجحودِ والنكرانِ؛ فإنَّ النِّعمَ إذا شُكِرتْ قرَّتْ، وإذا كُفِرتْ فرَّتْ، والشكرُ مُؤذنٌ بالزيادةِ، قالَ عالمُ الغيبِ والشهادةِ: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ}.


ثالثُها: كثرةُ الدعاءِ بدوامِ الأمنِ والأمانِ، اقتداءً بالأنبياءِ عليهم الصلاةُ والسلامُ، رابعُها: السمعُ والطاعةُ لولاةِ الأمرِ، ولزومُ جماعةِ المسلمين؛ فلا أمنَ إلا بجماعةٍ، ولا جماعةَ إلا بإمامٍ، ولا إمامَ إلا بسمعٍ وطاعةٍ، قالَ تعالى: {يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ}.


وعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رضي الله عنه قَالَ: «بَايَعْنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي العُسْرِ وَاليُسْرِ، وَالمَنْشَطِ وَالمَكْرَهِ، وَأَنْ لَا نُنَازِعَ الْأَمْرَ أَهْلَهُ». رواه البخاري.


خامسُها: لزومُ العلماءِ الربانيين الراسخين في العلمِ، ففي ذلك سلامةٌ في المنهجِ، ونورٌ في الفَهمِ، وسدادٌ في الرأي، وجلبٌ للمصالحِ، ودرءٌ للمفاسدِ، قال جلَّ وعلا: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ}.


سادسُها: ترسيخُ الأمنِ الفكريِّ وتقويتُهُ لدى الناشئةِ والمجتمعِ؛ لحمايتِهِم وتحصينِهِم منَ العقائدِ الفاسدةِ، والأفكارِ المُنحرفةِ، والجماعاتِ المُتطرفةِ، والفِرَقِ المشبوهةِ، والأحزابِ الموبوءةِ؛ التي تسعَى لشقِّ عصَا الطاعةِ، وتفريقِ الجماعةِ، فمتى ما تغذتْ عُقولُ الناسِ بالأفكارِ السليمةِ، والمفاهيمِ الصحيحةِ، البعيدةِ عنْ تحريفِ الغالين وانتحالِ المبطلين؛ أمِنتْ حياتُهُم، واستقامتْ معيشتُهُم، وتحققتْ أحلامُهُم.


أيها الناسُ: إن أمراً هذا شأنُه، ونعمةً هذا أثرُها، لجديرٌ بنا أن نبذِلَ في سبيلِهَا كلَّ غالٍ ونفيسٍ، وأنْ نستثمرَ كلَّ الطاقاتِ وأنْ نُسَخِّرَ كافةَ الإمكاناتِ في سبيلِ تعزيزِهَا والمحافظةِ عليهَا.
IMG 20241011 132438 635IMG 20241011 132446 105IMG 20241011 132452 237IMG 20241011 132500 504
أمّ المصلين لصلاة الجمعة بالمسجد النبوي فضيلة الشيخ الدكتور عبدالباري بن عواض الثبيتي واستهل خطبته قائلًا: أوصيكم ونفسي بتقوى الله فهي الزاد يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، إن قول الله تعالى " إنّ الله بصير بالعباد" يحمل في طياته معاني عميقة وأثرًا بليغًا على النفس والحياة، الكون بأسره والعباد جميعًا يقرؤون" إنّ الله بصير بالعباد" فتغمر قلوبهم السكينة، إذ يوقنون أن المدبر الحكيم، مالك السماوات والأرض هو الرحمن الرحيم الذي بلطفه يحيط عباده، لقد هيأ الله هذا الكون بديع الصنع للإنسان فسخّر له الليل لسكناه والنهار لسعيه والشمس والقمر لمعاشه، والشجر والدواب في خدمته، وجعل الفلك تسبح في البحر، والماء ينهمر ليحي الأرض، والهواء يعبر رئتيه بيسر، بسط له الأرض تحت قدميه، وأجرى عليها الأنهار وشقّ الوديان، وأنبت من باطنها كل صنوف النبات لتغدق عليه بخيراتها، ليأكل من ثمارها وينظر الله في أفعاله، كيف يعمل وكيف يشكر تلك النعم التي لا تحصى.

وأضاف فضيلته: يغرس قوله تعالى " إن الله بصير بالعباد" في قلب المسلم الرضا والتسليم بأنّ رزقه مضمون، وأن الله لا يخفى عليه حال عبده، ولا فقره، ولا عوزه، ولا ما يحمله من هموم المستقبل، فالله برحمته وعمله، يكفل لعباده الأرزاق فيورث في النفس طمأنينة في النفس طمأنينة وفي القلب سعادة. تأصل هذا المعنى في قلب المسلم واستشعاره بأن الله بصير به ومطلع على أحواله مستحضرًا معيه الله وقربه منه يورثه السكينة وعدم القلق، إذ يعلم أن الله قريب بسمعه ويراه كما قال سبحانه لموسى وهارون" إنني معكما أسمع وأرى" هذا الإدراك العميق يعزز التوكل على الله، ويشحذ الهمة في مواجهة التحديات وتحمل الأزمات بثقة وإيمان. وقف موسى عليه السلام أمام البحر، متبعًا بفرعون وجنوده، فكان الموقف عظيمًا، وكأن كل الأبواب قد أغلقت، فنطق بكلمات المؤمن الواثق، الذي يوقن أن الله معه، قائلًا: إن معي ربي سيهدين.." إيمان لا يتزعزع ولا يهتز أمام أي تحد. وهذا حال رسول الله صلى الله عليه وسلم، عندما هاجر إلى المدينة، وتبعه المشركون يريدون القضاء عليه في ظلمة الغار، طمأن صاحبه أبا بكر الصديق بكلمات الإيمان قائلًا: " لا تحزن إن الله معنا"، " ما ظنّك باثنين الله ثالثهما" إنّها نفس الثقة، نفس اليقين بأن الله ناصر عبده ولا يغلب من كان الله معه.

وتابع فضيلته: وحين تلقي الدنيا بأثقالها على قلب المسلم وتتزاحم لديه الوساوس وتعظم الهموم فإن دواء ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم" أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنّه يراك" استحضارها هذا المعنى العظيم يضفي على الصلاة لذة خاصة، ويمنح المناجاة أنسًا عميقًا، فتهيأ القلوب للإقبال على الله، متدبرة آياته غارقة في تأمل ملكوته، شاعرة بجلال الوقوف بين يديه، إنّ الصلاة التي يخرج منها المصلي وقد أشرقت روحه، وانقشعت غيوم الهم عن قلبه. " إنّ الله بصير بالعباد" قرآن يتلى يصنع العجائب يزرع نفس المسلم الحياء من الله، فيستحي أن يراه حيث نهاه أو أن يفقده حيث أمره يخشى أن تقوده أنامله إلى مواقع محرمة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، أو أن تسير قدماه إلى أماكن لا يرضاها خالقه، وكذلك تستحي أذنه أن تستمع إلى اللغو أو الفحش أو الغيبة والنميمة، إدراكًا منه بأن الله مطلع على كل ما يفعل ويسمع، فيجعل من مراقبة الله سياجًا يحميه من الوقوع في المعاصي. تعزز هذه الآية في نفس المسلم فضيلة العفة التي تلهمه الوقاية من الشهوات والنزوات فإن تهادى إلى سمعه صوت الفتنة تقول هيت لك تذكر أن الله بصير به فقال معاذ الله، فلا تسل عن هذا القلب وقوته ورباطة جأشه وثباته وسط المحن قال ابن القيم رحمه الله في هذا اللون من القلوب ( وقلبُ قد امتلأ من جلال الله عز وجل وعظمته ومحبته ومراقبته والحياء منه فأي شيطان يجترئ على هذا القلب).

وأشار فضيلته بأنّ يقرأ المظلوم " إنّ الله بصير بالعباد" فينساب إلى قلبه برد اليقين وسكينة الأمل مستروحًا أن حقه لن يضيع، إذ يدرك أن عين الله لا تغفل، وأن عدله قائم وسيقتص من الظالم في الوقت الذي يقدره سبحانه بحكمته، يتيقن المظلوم أن الظلم مهما اشتد واستطال فله أجل محتوم، وأن حقه مصون، وفي صبره على الابتلاء كنز من الأجر لا يقدره إلا الله وأن منقلب الظالم وعاقبته وخيمة. قال تعالى:" وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون". وإذا استشعر المسلم أن الله يراه في كل أحواله كان أسرع ملجأ يلجأ إليه وأقرب مسؤول يرفع إليه نجواه وأقرب حفيظ يبث نحوه شكواه والدعاء أول باب يطرق لمواجهة صعوبات الحياة قال تعالى" وإذا سألك عبادي عنّي فإنّي قريب أجيب دعوة الداعي إذا دعان".

واختتم فضيلته خطبته قائلًا: إنّ معنى " إن الله بصير بالعباد" يشكل قاعدة راسخة تدعم تنمية المجتمع وبناء الوطن ورفعة الأمن، وتحسين العمل وترتقي بحياة الأفراد، فعندما يستحضر الموظف والمسؤول على حد سواء أن الله يراه ويطلع على أعماله يتولد في نفسه دافع قوي للإخلاص والإتقان، يصبح العمل ليس مجرد واجب دنيوي، بل عبادة يبتغي بها رضا الله، فيظهر ذلك على أدائه ونزاهته وأمانته وتغليب المصلحة العامة ومقاومة الفساد، فتتقدم المؤسسات ويزدهر المجتمع وتتحقق جودة الحياة في كل تفاصيلها. وحين يستقر في سويداء القلب معنى أن الله بصير بالعباد، وأنه يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، يرتقي سلوك المجتمع وتتهذب أخلاقه وتصبح مراقبة الله هي المعيار الأعلى في البيع والشراء، وأداء حقوق الآخرين ويلتزم التاجر بالأمانة، فلا يغش في سلعته، ولا يستغل حاجة الناس، يفي بالعقود، ويتجنب الظلم والاحتيال.

الصفحة 1 من 2